الميلاد الثاني لمملكة الأزاندي -3

الكاتب: ايزاك وانزي هيلاري

ترجمة: أتيم سايمون

ليست كممالك غودوي القديمة

بعد أن تناولنا مركزية الملك غودوي في تاريخ الأزاندي، ومسيرة الملك أتوروبا بيني ريكيتو غودوي نحو العرش، ننتقل إلى ملامح التمايز بين المملكة الجديدة وممالك ما قبل الاستعمار.

فبعد 117 عامًا من غياب الملكية عن الأزاندي، وُصفت مملكة عام 2022 بأنها مؤسسة وليدة. ويعترف الملك أتوروبا بذلك قائلًا:

“لقد مرّ 117 عامًا بلا مملكة. نسينا كل ما كان يُعمل في المملكة، لأن الشيوخ جميعهم ماتوا. هذه المملكة جاءت جديدة”.

أي أن الأزاندي المعاصرين يملكون معرفة محدودة عن تفاصيل الحكم القديم، إذ لم يبق أحد من أولئك الذين عاشوا في تلك الحقبة. ومن ثم، اعتمد تأسيس المملكة الجديدة على ما وصفه إريك هوبزباوم وتيرينس رينجر بـ«اختراع التقاليد»، وهي العملية التي «تستلزم قدرًا كبيرًا من الابتكار حين يكون الماضي ممزقًا أو منسيًا».

جاءت «الاختراعات» واضحة في كيفية مواءمة المملكة الجديدة مع بيئتها السياسية المعاصرة. فبينما كانت الممالك الأزاندية القديمة كيانات ذات سيادة تمتلك جيوشًا وعلاقات خارجية، نشأت المملكة الجديدة داخل دولة جنوب السودان الحديثة، ووفق اتفاق اقتسام السلطة عام 2018، قُسّمت الولايات العشر على أسس سياسية، وأصبحت غرب الاستوائية تحت إدارة حاكم من المعارضة المسلحة، هو الجنرال ألفريد فوتويو كارابا.

وبناءً عليه، كانت موافقة الحكومتين الوطنية والولائية ضرورية، كما كان لا بد من تكييف المشروع مع المعطيات السياسية. فالمبادرون بإحياء المملكة قرأوا المشهد المحلي والوطني بعناية، وصاغوا مشروعهم بطريقة تكسب قبول الأطراف السياسية المتنافسة. وفي ظل هذا الوضع، اضطر الملك أتوروبا إلى التفاوض حول موقعه وحدود نفوذه، قائلًا:

“هذه المملكة لن تكون مثل ممالك عهد غودوي، لأن غودوي كان حرًا يفعل ما يشاء. أما الآن فلدينا حكومة، ومديرو فيامات، ومفوضون، ووزراء، ونواب حكام، وحكام، ورئيس للبلاد، لقد جاءت مملكتكم تحت سلطة هؤلاء”.

ومع أن موقع الملك وصلاحياته لم تتحدد بوضوح، فإن بعض محاولاته — مثل استعادة الأراضي التاريخية التي تضم قبر الملك غودوي على ضفة نهر أسانزا — لم تُكلّل بالنجاح .

في المقابل، شكّلت المملكة فرصة جديدة للأزاندي لإحياء تقاليدهم والتعبير عنها، فقد ساهمت الجاليات الأزاندية في المهجر ماليًا وإعلاميًا في الترويج للمشروع، وبثّت فعاليات التتويج مباشرة عبر منصات مثل     Azande Live Talk Showو  Azande Television وبرزت خلال الاحتفال رموز التراث الأزاندي — من أقمشة اللحاء (Bark Cloth) إلى الأسلحة التقليدية، مثل الرماح والسكاكين القاذفة، لكن بعض التفاصيل كشفت تكيّف التقليد مع الحداثة؛ فالدروع المصنوعة من الكرتون المقوّى حلّت محل دروع الخيزران القديمة، كما أوضح الأمير ريمباسا:

“حين نُفدت أقمشة اللحاء من السوق، أجزنا استخدام قماش بني يشبهها، فكان هو ما ارتداه الناس في ذلك اليوم”.

هكذا تجلّت روح المزج بين الأصالة والتجديد في مشروع المملكة.

على الرغم من أن موكب تتويج الملك آتوروبا والطقوس المصاحبة له أُقيمت عند ضريح الملك غودوي، فإن المملكة التي أُعلن عنها لم تكن مملكة غودوي نفسها، فقد كشفت كلمات الأميرة جيما نونو كومبا — رئيسة الجمعية التشريعية الوطنية الانتقالية المُنشطة في جنوب السودان، والحاكمة السابقة لولاية غرب الاستوائية، وعضو عشيرة أفونغارا، وحفيدة الملك غودوي — عن الفارق الجوهري بين الملكية الجديدة والممالك التي سبقتها في العهد ما قبل الاستعماري.

استخدمت الأميرة في خطابها كلمة أوني، وهي جمع كلمة “أنت” في لغة الزاندي، بعد أن استخدمت عبارة كوبا رو، أي “مكانك” أو “عرشك”، وهي صيغة المفرد التي تشير إلى عرش غودوي تحديداً، وفي لغة الزاندي، تُستخدم صيغة الجمع أوني عادةً من قِبل الأصغر سناً عند مخاطبة الأكبر أو صاحب السلطة، غير أنه من النادر الجمع بين الصيغتين — المفرد والجمع — في آن واحد.

  وهنا، تفتح كلمة أوني الباب أمام معنى أوسع، فهي لا تشير إلى ملك واحد، بل إلى أكثر من عرش، وفي سياق ممالك الازاندي القديمة في إقليم جنوب السودان، يمكن أن ترمز إلى عروش إيزو ومانجي و طمبرة أيضاً.

وفي أثناء أداء الطقوس التي استُحضرت فيها أرواح الملك غودوي لتحلّ على الملك آتوروبا في يوم تتويجه، قالت الأميرة جيما نونو كومبا:

لقد جئنا بحفيدك، آتوروبا غودوي. ليكن أمامنا هنا كوبا رو (في مكانك أنت [مفرد]) ونا كوبا رو أوني (وفي مكانكم أنتم [جمع])، انزل عليه اليوم لتقوده في هذا الملك الذي يعتلي فيه عرشك، فلتكن الأرواح معنا جميعاً، وليسر هذا الحدث بخير، قوِّه، وامنحه عمراً طويلاً، وصلِّ إلى الله من أجله ومن أجلنا، ليكون لنا ملكاً قوياً هنا.

توحيد الممالك الأربع وبعث ملوكها

إن توحيد الممالك الأربع لتشكيل مملكة الزاندي الجديدة يعني أيضاً إعادة ابتكار أدوار الملوك الراحلين وألقاب ورثتهم في الحاضر، خلال الاحتفال الأول بميلاد المملكة، وصف الملك الأرواحَ الحارسة للملوك إيزو وطمبرة ومانجي وغودوي بأنها الأعمدة التي تقوم عليها المملكة، ومنها يستمد الملك سلطته في البركة أو اللعنة على من يعصيه.

أما الألقاب الزانداوية با-كيندو ونا-كيندو (أي: أب المملكة وأم المملكة) فتُترجم إلى “الملك” و“الملكة”، في حين يُترجم اللقب هيري-هيري ويري باكيندو إلى “الأمير” أو “الأميرة”.

التكوين والاحتمالات الغامضة

تُجمع الروايات الشفوية في تراث الأزاندي على أن الملك نغورا كان من أكثر الملوك تأثيراً في تطوير بنية الحكم التقليدي، فقد أرسى نظام الحاكم الواحد، يعاونه أمراء ورؤساء مناطق، وبعد وفاته، حملت الممالك أسماء خلفائه مثل مملكة مابنجي وتومبو، ثم ليوا طمبرة وغودوي.

أما المملكة الجديدة التي تأسست عام 2022، فقد اتخذت اسم “الزاندي”، ليكون رمزاً لوحدة الشعب، إذ قال الملك آتوروبا إن الهدف هو “توحيد الزاندي بعد قرون من التفرّق بين ممالك متعددة”.

وفي خطاب أمام الحشود خلال الذكرى الأولى لتأسيس المملكة قال الملك:

“حين جئنا، قلنا: لا يوجد زاندي طمبرة ، ولا زاندي إيزو، ولا زاندي غودوي، ولا زاندي مانجي، ولا زاندي واندو، ولا زاندي إكبيرو، أنت فرد واحد، وأنت زاندي.”

بهذه الكلمات دعا الملك إلى تجاوز الحدود القديمة وبناء هوية جامعة تحت راية واحدة.

ومع ذلك، يبقى اسم “مملكة الزاندي” محملاً بالالتباس، إذ يعيش الزاندي أيضاً في الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى، داخل أراضٍ كانت تشكل قديماً “زاندي لاند” المستقلة.

هل تمتد سلطة المملكة الجديدة إلى ما وراء الحدود الدولية؟

فعلى سبيل المثال، ظهر على الحدود الجنوبية بين إفريقيا الوسطى وجنوب السودان فصيل مسلح يُدعى آزاندي آني كبي غبي (AAKG)، وقد اتهم حاكم غرب الاستوائية في رسالة إلى الرئيس سلفا كير الأميرة جيما نونو كومبا، حفيدة الملك غودوي، بأنها من بين قادته.

لكن الملك آتوروبا أوضح أن حكمه سيقتصر على “الأرض التي منحها الله للزاندي في عهد غودوي”، أي أراضي الزاندي داخل حدود جنوب السودان، من مريدي شرقاً حتى نهر بو غرباً.

إعادة هيكلة المملكة

جاء ميلاد المملكة في سياق دولة قومية حديثة، ما تطلّب إعادة تشكيل بنيتها، وحتى الذكرى الأولى لتأسيسها، لم تكن للمملكة هيكلية واضحة، قال الملك في أحدى خطاباته:

“لم نبدأ العمل في بداية العام، لكن سيأتي وقت أتحدث فيه بسلطة المملكة الكاملة.”

وفي عام 2022، عُقد في يامبيو “المؤتمر الأول لمملكة الزاندي”، بحضور ممثلين من عشر مقاطعات في ولاية غرب الاستوائية، ناقش المؤتمر علاقة المملكة بالمجتمعات غير الزانداوية، وهيكل الحكم، والقوانين العرفية، ودستور المملكة.

ورغم أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على شكل العلاقة بين المملكة والحكومة المحلية، فإن الأمير ريمباسا طرح رؤيته قائلاً:

يجب أن تتبع المملكة نظام الحكم اللامركزي الذي كان سائداً قبل الاستعمار، مع بعض التعديلات، يكون الملك آتوروبا على رأس المملكة، يليه مجلس العائلة الملكية المؤلف من ثلاثة أمراء من ممالك إيزو و طمبرة ومانجي، ثم رئيس الوزراء من أي من هذه المناطق، يليه سبعة وزراء (أبانياكي) يشرفون على قطاعات الثقافة والتعليم والصحة والزراعة والمالية والتنمية والإدارة، وتحتهم مجلس الشيوخ ورؤساء الأقاليم.

لكن تنفيذ هذه الرؤية يواجه تحديات مالية وإدارية، فالمناصب التقليدية العليا كـ“الزعيم الأعلى” أصبحت اليوم حكومية تُعيّن وتُموّل من الدولة، كما قلّص قانون الحكم المحلي سلطاتهم في جمع الضرائب أو فض النزاعات كما في الماضي.

ومن ثم، يحتاج الملك آتوروبا إلى موارد مالية تمكّنه من مكافأة المعيّنين وكسب ولاء الزعماء التقليديين.

القوانين والعرف والدستور

أوضح الأمير ريمباسا أن القوانين العرفية المقترحة ستراعي القضايا الخاصة بثقافة الزاندي، قائلاً:

“إذا أخذت قضية سورو إلى المستشفى أو إلى المحكمة، فلن يعرفوها. لكن الزاندي يعرفون ما هو السورو، وداكبا (الاستشارة الروحية)، وداوا (الدواء) المملكة ستضع قوانين لهذه الأمور في قوانينها العرفية.”

غير أن مثل هذه القوانين قد تتعارض مع التشريعات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان، ما سيجعل المملكة بحاجة إلى التفاوض مع الحكومة للحصول على الاعتراف.

الأزمات المالية

تعاني المملكة من نقص الموارد المالية، ففي عام 2023، دعا الملك والأمير ريمباسا جاليات الزاندي في المهجر إلى جمع التبرعات أثناء زيارتهم إلى ميامي بالولايات المتحدة، إذ قال الملك في كلمته عبر بث مباشر: “لقد أعدنا المملكة، لكني ما زلت أنتظر هدايا الزاندي. إنها مملكتكم، لا مملكة الحكومة، عندما استعدناها، لم يقدم لي سوى رئيس جنوب السودان سيارة واحدة… إعداد الدستور يحتاج إلى مؤتمر، لا يمكن للمحامين أن يكتبوه من فراغ، فأساسه هو القانون العرفي، وهذه كلها تحتاج إلى مال… نحن الآن نبحث عن الموارد لنبدأ العمل.”

وفي أغسطس 2023، أطلقت المملكة خطة لجمع التبرعات لتنفيذ مشاريعها خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.

خاتمة:

حلّلت هذه الدراسة أبعاد إعادة إحياء مملكة الزاندي في يامبيو عام 2022، بوصفها الوريثة الرمزية لممالك القرن التاسع عشر التي انتهت بهزيمة الملك غودوي على يد القوات الأنغلو-مصرية قبل أكثر من قرن.

غير أن وجود مملكة وملك داخل دولة حديثة يعني أن الحاكم الجديد اضطر إلى الموازنة بين ولائه لشعبه وصلاته بالحكومة المركزية، فارتباطه القوي بها كان عاملاً حاسماً في إعادة بعث المملكة، وإن بصيغة مختلفة تماماً عن ممالك الماضي ذات السيادة العسكرية والسياسية.

لقد جُمعت الممالك الأربع السابقة في كيان واحد تحت راية الملك آتوروبا، لكن المملكة في طورها “الوليد” ما تزال تبحث عن سلطة حقيقية ومكانة راسخة بين مواطنيها.

وفي حين يسعى الزاندي إلى إحياء تقاليدهم، تواجه المملكة تحديات تتعلق بتضارب الأعراف مع القوانين الوطنية والدولية، وتنافس مؤسسات الدولة والكنائس والمنظمات الدولية، فضلاً عن تحدي التمويل.

وفي الوقت ذاته، ينظر كثيرون إلى مملكة الزاندي بوصفها رمزاً للوحدة في ولاية غرب الاستوائية، وكما قال الأسقف إدواردو هيبورو كوسالا خلال الاحتفال بالذكرى الأولى لتأسيسها:

“دعني أقول لك يا جلالة الملك: الكنيسة لا تستطيع أن توحّد شعب غرب الاستوائية، والحكومة لا تستطيع، والمؤسسات الأخرى لا تستطيع، لكنك تملك أعظم هدية، لأنك كملك قادر على أن توحّدنا.”

    وهكذا، تقف المملكة أمام مهمة جسيمة تتجاوز مهام الممالك القديمة في عهد غودوي: التوفيق بين إرث التقاليد ومتطلبات الدولة الحديثة، وإحياء هوية الزاندي، وتوحيد شعبٍ مزّقته الانقسامات الإثنية والسياسية.


*ايزاك وانزي هيلاري: باحث أنثروبولوجي من جنوب السودان، مهتم بقضايا الهوية والسلطة والتقاليد في مملكة الأزاندي.

* أتيم سايمون:  باحث وكاتب ومترجم من جنوب السودان، متخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *