غودوي في تاريخ الأزاندي
الكاتب: ايزاك وانزي هيلاري
ترجمة: أتيم سايمون
في أوج الملكية الأزانديّة، لم يكن هناك مملكة واحدة، بل عدة ممالك أزانديّة، بما في ذلك ممالك مانغ، غودوي، إيزو، ليوى، طمبرا وواندو. واليوم، تُذكر مملكة غودوي أكثر من غيرها عندما يروي الأزاندي تاريخ مؤسساتهم التقليدية، وترجع شهرة غودوي ومملكته إلى الماضي الاستعماري—مقاومته للقوى الأجنبية التي استهدفت المنطقة بشكل متزايد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحولات ما بعد الاستعمار التي منحت غودوي مكانة بارزة في تأريخ الأزاندي . يحاول هذا القسم تقديم نظرة عامة على ملوك الأزاندي السابقين عبر مثال الملك غودوي باعتباره أشهر القادة الذين أظهروا الشجاعة في الدفاع عن منطقة الأزاندي ضد الوافدين الجدد.
بينما كان بعض الملوك الآخرين أكثر تساهلًا، واختاروا التكيف مع القوى الاستعمارية ما منحهم سلطة آنذاك، فقد أصبحوا سيئي السمعة في الذاكرة التاريخية . في المقابل، تبدأ التاريخيات الشفوية حول الملك غودوي بمقاومته للقوى الأجنبية، كما يروي الملك أتوروبا:
“كان غودوي ملكًا على الملوك. كان شجاعًا في الأرض التي منحها الله لنا. حاولوا معه بكل الطرق الممكنة، لكنه رفض الخضوع للأجانب. أنتم تعرفون أن الأجانب كانوا من ذوي البشرة الحمراء، والأجانب من ذوي البشرة البيضاء الذين رأوا ثروات في هذه الأرض ورغبوا في دخولها، لكن غودوي رفض … وبفضل شجاعته وجيوشه الكثيرة، اجتمعت قوى الأجانب وحاربت ضده. جاء البريطانيون، ووصل الفرنسيون، وبلجيكا.”
تشير هذه الرواية الشفوية إلى الأحداث التي أدت لاحقًا إلى وفاة الملك غودوي. قبل أسرِه بين 1882–1884 في ديم زبير، كان غودوي لا يُدنى منه، وبحلول 1903 لم تستطع الدوريات البريطانية الوصول إليه ، لقد ميزت تلك المقاومة العسكرية الشرسة ضد القوى الاوربية الملك غودوي عن بقية ملوك عصره.
قُتل الملك غودوي في فبراير 1905، اثناء أو بعد مواجهة عسكرية مع دورية استعمارية أنجلو-مصرية في يامبيو. ومع ذلك، ظل تاريخ وفاة الملك غودوي موضوع جدل طويل، تشير الكتابات المبكرة إلى أنه توفي في 10 فبراير، لكن أحد كبار أعضاء سلالة آفونغارا يرى أنه توفي في 9 فبراير، وشرح الأمير ريمباسا في مقابلة بقوله:
“لا يمتلك الناس معلومات دقيقة حول ما إذا كان غودوي توفي في التاسع أو العاشر لأنه توفي ليلًاـ في ليلة وفاته، هطلت أمطار غزيرة. سواء توفي قبل منتصف الليل أو بعده، الناس لا يعرفون. وما هو معلوم أنهم أعلنوا وفاته في العاشر.”
ويرتبط هذا التفسير بالمنطق الأزاندي الذي يرى أن اليوم الجديد يبدأ عند الفجر وينتهي في صباح اليوم التالي، كما يتزامن التاريخ الجديد أيضًا مع حدثين رئيسيين: العودة الرسمية للملك المعيّن، الزعيم الأعلى أتوروبا بيني، من الاحتجاز، واستعادة مملكة الأزاندي الجديدة. ومن ثم، نقش على المظلة الواقية فوق قبر الملك غودوي منذ 2022:
“قبر جلالة الملك غودوي بانزينغي، الذي استشهد في 09/02/1905”

تظل علاقة الملك غودوي ومملكته بالمجموعات العرقية غير الأزانديّة موضوعًا محل جدل إلى حد ما، وقد جادل الملك أتوروبا بأن غودوي كان درعًا للمجموعات الأخرى ضد تجار العبيد، موضحًا في خطاب:
“لم يمنع غودوي هذه الطريق لحماية الأزاندي فقط، بل لحماية القبائل الأخرى التي عاشت هنا. فقد أرادوا فتح طريق لنقل العبيد من هذه المنطقة.”
تشير الكتابات التاريخية إلى أن مجموعات عرقية أخرى، بما في ذلك البلندا والبونغو، فرّت من اضطهاد العرب ومداهمي العبيد. وفي عصر تجارة العبيد، كان الأزاندي تحت حكم سلالة آفونغارا يُعتبرون “أكثر نجاحًا من معظم القبائل الجنوبية في مقاومة مداهمي العبيد”.
وقد نقل خطاب الملك أتوروبا صورة للملك غودوي تتماشى مع رؤية مملكة الأزاندي المعاد إحياؤها كمؤسسة تقليدية ترحب بكل من يشارك في هدف تعزيز السيادة المحلية.
لكن آخرين يشددون على أن غودوي كان ملكًا عنيفًا وشجاعًا، يُخشى من خصومه بين الأزاندي والمجتمعات الأخرى المجاورة لمملكته، وبعيدًا عن معاركه المتكررة وغاراته ضد زعامات الأزاندي الأخرى، اشتهر الملك غودوي بمواجهته لمجتمعات شرقية، بما في ذلك الباكا والمورو والدينكا ، ومع أن الاحتفال بـ“يوم غودوي” أدى لاحقًا إلى إحياء مملكة الأزاندي، أعربت هذه المجتمعات عن خشيتها من احتمال استعادة السياسة التاريخية لتوسيع الأراضي الأزانديّة.
في القرن التاسع عشر، كانت ممالك الأزاندي توسعية بطبيعتها، وغالبًا ما كانت تدمج، وربما ترحب، بالسكان الجدد بشرط أن يندمجوا في طرق المملكة، ومع ذلك، جادل الملك أتوروبا بأن هناك تحوّلًا جذريًا في إعادة إحياء المملكة الأزانديّة؛ فهي الآن ستستوعب المجتمعات غير الأزانديّة وتتخلى عن سياسة التوسع السابقة قبل الاستعمار. وقال:
“لقد جاءت المملكة لتوحيد الأزاندي مع جميع القبائل الأخرى التي تعيش معهم، وللتعايش بسلام … لا ينبغي للناس أن يخافوا؛ غودوي لن يعود ليواصل التوسع، حيث وصل فلن يُمدّد.”
بمعنى آخر، رأى الملك الجديد نفسه ركيزة في اتحاد قبلي وليس إمبراطورًا، ومن جهة، يعكس هذا دليلًا على عقلية أقل توسعية، لكنه أيضًا يشير إلى مدى أهمية وقُدسية الانتماء القبلي والعرقي في السياسة الجنوبية السودانية—ربما أكثر مما كان عليه الحال قبل الاستعمار الأوروبي.
لقد كانت مقاومة الملك غودوي رمزًا تاريخيًا مهمًا لقادة حركة استقلال جنوب السودان، وقد استُشهد بها ذات مرة من قبل الزعيم الراحل للحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان، الدكتور جون قرنق، لكسب دعم الأزاندي، حين وُصفت مقاومة غودوي بأنها نضال جنوبي مبكر من أجل دولة مستقلة، وعند استقلال جنوب السودان في 9 يوليو 2011، قامت حكومة ولاية غرب الاستوائية بتكريم الملك غودوي عند قبره . وكل ذلك يؤكد ما لاحظه كويوك أبول كويوك أيضًا بقوله : “غودوي شخصية عملاقة في تاريخ جنوب السودان”.
وبعيدًا عن قيادته العسكرية، كان الملك غودوي أيضًا زعيمًا روحيًا، لقد تذكّره الأزاندي بنبوءته حول بقاء الأزاندي وسط الحرب والجوع، ومن الشائع أن يقتبس العديد من الأزاندي قوله: “غودوي تنبأ بأن الأزاندي لن يهلكوا بسبب الحرب، بل بسبب الجوع.” ونظرًا لقوة الأزاندي العسكرية في عهد غودوي، قد يشير هذا القول إلى أن غودوي لم يكن يخشى الحرب بقدر ما كان يخشى الجوع، وعلى الرغم من أن القوى الاستعمارية هزمت لاحقًا الممالك الأزانديّة، استمر الكثيرون في استحضار هذا القول في أوقات الصراع لاستمداد القوة ومواجهة الأعداء. كما أن بعض الأزاندي الذين قرروا البقاء في أماكنهم بدل الانتقال إلى مأمن خلال الحروب (“الباقون”) يستشهدون أيضًا بهذا القول، وقد ألهم هذا القول العديد من الأزاندي للعمل في الزراعة في مواجهة انعدام الأمن الغذائي.
الملك الجديد: التاريخ والاختيار
صاحب الجلالة الملك أتوروبا بيني ريكيتو غودوي هو ملك مملكة الأزاندي، قبل عام 2011، كان يُعرف الزعيم أتوروبا ويلسون بيني بعدة أسماء، منها ويلسون حسن بيني، وويلسون بيني ريكيتو، وويلسون بيني مورو-غودوي. وليس من النادر في جنوب السودان أن يُعرف الشخص بأسماء متعددة، وفي هذه الحالة، ربما جاء جزء من هذا التحول لتفادي تأثيرات أو ارتباطات الأسلمة التي ارتبطت بالاسم حسن . أما اسمه الملكي أتوروبا بيني ريكيتو غودوي، فيربطه بصورة أوثق بأسلافه، الأمير ريكيتو والملك غودوي بن بازينغي.
على مدى عقود، ظلّت العشيرة الحاكمة، الأفونغارا (Avongara)، تحمل فكرة إحياء ممالكهم القديمة. وقد جرت أول محاولة بعد استقلال جنوب السودان عام 2011. ففي يامبيو، تشكّلت لجنة لتنظيم مراسم التتويج، وحظيت المبادرة بدعم واسع من أبناء الأزاندي الذين ساهموا بالمال لإعادة تأسيس المملكة. ومع ذلك، دار جدل داخل كنانة الأفونغارا حول أي من الممالك الأزانديّة ما قبل الاستعمار ينبغي إحياؤها، ومن سيكون الملك المستقبلي. فقد رأى بعض أفراد الأفونغارا أن الملك غودوي لم يعيّن خليفة واضحًا قبل وفاته، ومن ثمّ فإن مملكته وسلالته الحاكمة قد انتهتا بهزيمته على يد الاستعمار. في المقابل، استمرّت مملكة طمبرة وسلسلة الخلافة فيها بعد الحقبة الاستعمارية، إذ تحالف ملكها طمبرة مع المصريين ولاحقًا الفرنسيين، وبفضل هذا التحالف استمرّت شرعية خلافته.
وفي عام 2011، أورد مصدران مختلفان تقارير منفصلة حول الزعيم مبوريبامو رينزي، حيث وصفه أحدهما بأنه “الملك المتوَّج”، فيما وصفه الآخر بأنه “الزعيم الأعلى المُكلَّف على طمبرة” ، ومع ذلك، فإن منصب الزعيم الأعلى هو منصب حكومي بالتعيين، لا يرتبط بطقوس ثقافية كثيرة كما هو الحال مع الملكية التقليدية. وما حدث بالضبط في طمبرة ما يزال غامضًا، لكن منذ عام 2011 يُشار إلى مبوريبامو بلقب الزعيم الأعلى لمقاطعة طمبرة.
أما في منطقة غودوي بمدينة يامبيو، فقد برز الزعيم أتوروبا — حفيد الملك غودوي الأكبر — من خلال المناصب الحكومية التي تقلدها، والتي وضعته لاحقًا في صدارة المرشحين للملكية. فقد شغل أولًا منصب زعيم منطقة ريمينزي، وهو المنصب الذي عيّنه فيه والده منذ صغره. ثم انتقل لاحقًا إلى مقاطعة يامبيو ليصبح الزعيم الأعلى، وهو أعلى سلطة محلية في المقاطعة، وفي هذا الدور، كان زعيمًا تقليديًا صريحًا ونشطًا، تبنّى مبادرات ومشروعات لخدمة المجتمع المحلي. ويُنسب إليه تأسيس مجموعة “فتيان السهام” ، وهي جماعة حراسة محلية تصدّت لجيش الرب للمقاومة بين عامي 2008 و2010.

ورغم أن مبادرة عام 2011 لتتويج أتوروبا ملكًا لم تتحقق، فإن لقبي الملك والزعيم الأعلى أصبحا يُستخدمان بالتبادل للإشارة إليه، بما يعكس مكانته المتصاعدة بين الأزاندي وإرهاصات عودة الملكية التقليدية.
حين أوشكت خطة إحياء المملكة وتتويج أتوروبا ملكًا رسميًا على الاندثار، جاءت الأحداث السياسية في عام 2016 لتُعيد الأمل إلى المشروع، ففي ذلك العام، شهدت ولاية غرب الاستوائية في ظل حاكمها من الحركة الشعبية لتحرير السودان ، اللواء باتريك زاموي، تصاعدًا في نشاط الجماعات المتمردة، إذ سيطرت الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان على الأجزاء الجنوبية والشرقية من مدينة يامبيو، بينما بسطت قوات المعارضة المسلحة نفوذها على الأجزاء الشمالية، وفي خضم هذه الفوضى الأمنية، جرى اعتقال الزعيم أتوروبا في يامبيو ونُقل إلى جوبا، بسبب انتقاده لانتهاكات الحكومة ضد المدنيين ، ورغم أنه أُفرِج عنه بأمر من الرئيس سلفا كير، إلا أنه لم يعد إلى يامبيو إلا بعد أكثر من خمس سنوات — وتحديدًا في يوم تتويجه في 9 فبراير 2022.
اللافت أن تجربة اعتقال الزعيم أتوروبا وسجنه تشبه إلى حد بعيد ما عاشه جدّه الأكبر الملك غودوي، الذي اعتُقل واحتُجز في ديم زبير، غير أن مساريهما بعد إطلاق السراح كانا مختلفين، فبينما اختار غودوي بعد عودته إلى يامبيو مواصلة مقاومة القوى الاستعمارية، اختار أتوروبا طريق التعاون والمصالحة، وقد أوضح ذلك قائلًا:
” ذهبت إلى هناك، فرحّب بي الرئيس ومنحني عضوية لجنة الحوار الوطني… كما أقمت في جوبا لربطنا بـ(الحكومة)، وهذا كان سببًا آخر لبقائي. عملت بجد، وهم يعرفوننا الآن، ولذلك طلب الرئيس من برنابا مريال أن يرافقني إلى يامبيو”.
إن علاقة الزعيم أتوروبا الوثيقة بالحكومة القومية كانت من العوامل الحاسمة التي جعلت إحياء المملكة ممكنًا. فبدلًا من أن يكون رمزًا للمقاومة، اختار التعاون مع السلطة لتقوية موقعه، وتشير دراسات سابقة عن العلاقة بين الزعماء التقليديين والدولة في جنوب السودان إلى أن هذا النوع من التعاون المتبادل ساعد الزعماء التقليديين على ترسيخ مكانتهم ، وبينما خدم أبناء ملوك الأزاندي السابقين كزعماء أعلى في مناطقهم، فإن أتوروبا تفوّق عليهم بفضل شهرته الواسعة وخبرته الطويلة، لا سيما بصفته الزعيم الأعلى ورئيس القيادات التقليدية في الحوار الوطني.
بحلول عام 2021، أصبحت جوبا مقرًا لكبار أفراد عشيرة الأفونغارا وزعماء الأزاندي الذين قادوا جهود إحياء المؤسسات التقليدية، ومن بين هؤلاء البارزين باتريك زاموي ودانيال باداغبو ريمباسا — وكلاهما حاكمان سابقان لغرب الاستوائية — إلى جانب الزعيم الأعلى مبوريبامو رينزي، وقد أوضح ريمباسا، حفيد الملك غودوي، في مقابلة آلية اختيار المرشح للعرش:
” لم تكن هناك حاجة لاستشارة العرّاف، لأن غودوي حين توفي لم يترك العرش لابن محدد. ولو اعتمدنا الأقدمية لتغيّر الأمر وحدث ارتباك. لذلك اجتمع الزعماء البارزون، وراقبوا أحفاد غودوي الذين يعملون زعماء أعلى، واختاروا من كان مؤهلًا ويحظى أصلًا بلقب الملك بين الناس”.
وتُشير هذه الرواية إلى أن الاختيار جرى داخل كنانة الأفونغارا، واعتمد أساسًا على كفاءة المرشح في المنصب الحكومي كزعيم أعلى، غير أن هذا المعيار يثير تساؤلات مستقبلية حول آلية الخلافة في مملكة الأزاندي الجديدة، إذ إن المملكة الحالية تمثل اندماجًا لأربع ممالك أزاندية من القرن التاسع عشر — هي ممالك إيزو، وطمبرا، ومانجي، وغودوي — ولا تزال لكل منها ورثة مؤثرون. وبينما لم يُحسم بعد كيف سيُتَداول العرش بين «الأمراء» المنحدرين من تلك الممالك، فإن الملك الحالي أتوروبا لديه أبناء قد يتنافسون على المنصب ذاته مستقبلًا.
الكاتب: ايزاك وانزي هيلاري: باحث أنثروبولوجي من جنوب السودان، مهتم بقضايا الهوية والسلطة والتقاليد في مملكة الأزاندي.
المترجم: أتيم سايمون: باحث وكاتب ومترجم من جنوب السودان، متخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.


اترك تعليقاً