مذكرات : الاسكتلندي جيمس بروس
أما سنار فلم تتغير، ولكنها بدت مزدهرة بعض الشيء. وعندما وصلها بروس، كانت في أسوأ مواسمها، فقد وصفها بعبارات تثير اليأس والقنوط، فقال:
“يستحيل على الدواب كالخيل والبغال أن تتناسل أو حتى أن تعيش في هذه المدينة، وفي منطقة تمتد إلى عدة أميال حولها. أما الدواجن فلا وجود لها، وأما الكلاب والقطط والضأن والماشية، فلا تقع عليها العين إلا نادراً، لأن تربيتها من الصعوبة بمكان. وكنت قد أحضرت معي كلباً من كلاب الصيد وبعض البغال من الحبشة، إلا أنها لم تعش لأكثر من بضعة أسابيع بعد وصولنا”.
ويصف الطقس وصفاً طريفاً، فيقول:
“أسميه حاراً عندما يتصبب العرق من الشخص وهو ساكن، ويشتد تصببه عند أبسط مجهود، وأقول إنه حار جداً عندما يتصبب العرق غزيراً رغم أن الشخص يكون جالساً لا يتحرك ولا يرتدي غير ملابس خفيفة. وأقول إنه شديد الوطأة عندما يتصبب العرق بغزارة وهو في حالة استرخاء تام ولا يرتدي أكثر من قميص واحد، ويصاحب ذلك آلام عند الحركة وارتعاش في الركبتين، كما لو أُصيب المرء بالحمى. أما عندما تخور القوى، وتعتري المرء نوبات من الغثيان، ويشعر بتصلب في الصدغين كأنما شُدّ عليه بوتر حول رأسه، وعندما يخفت الصوت ويجف الجلد ويشعر الشخص بخفة في رأسه مع ازدياد حجمه – عندها، يكون الطقس قد بلغ أقصى درجات الحرارة، وهنا، على ما أعتقد، يكون الموت قد أصبح قاب قوسين أو أدنى”.
والظاهر أن بروس قد قاسى من كل مراتب الحرارة التي ذكرها أثناء الأربعة أشهر التي قضاها في سنار.
الحياة التي أذهلت بروس
وفي سنار، وجد بروس نفسه بين مسلمي الصحراء. وكان من الطبيعي أن يتوقع نوعاً من الحياة أكثر جدية مما رآه في إثيوبيا المسيحية، غير أن مملكة سنار، التي كانت تشرف على نهايتها، لم تكن تمثل نموذجاً طيباً للإسلام. فالملك إسماعيل (المك ) – كالإمبراطور تكلا هيمانوت – لم يكن أكثر من لعبة في يد وزيره الشيخ عدلان. وكان إسماعيل شاباً منحرفاً في نحو الرابعة والثلاثين من عمره، له سحنة أقرب إلى العربية من الزنجية، والظاهر أنه كان ضعيف الإرادة، متبرماً بالحياة. وقد سمح لبروس بمقابلته بينما كان يدلك له جسمه بكميات وافرة من دهن الفيل، الذي يُقال إن من خصائصه أنه يمنح الجسم قوة ونشاطاً.
وفي الوقت نفسه، كانت عدد من نسائه يقبعن في مؤخرة الحجرة بأجسامهن الضخمة وأشكالهن التي تبعث على التقزز والاشمئزاز. وعندما شعر إسماعيل بأنه قد فُوجئ وهو في حالة من التبلد والاسترخاء لا تليق به كملك، أبدى دهشته من أن يخاطر بروس بحياته ويقلق راحته، ويقوم برحلة غير مضمونة العواقب، رغم أن له وطناً يملك فيه داراً خاصة به.
فقال له بروس إنه رجل من طراز الدراويش، قد زهد في الدنيا وملذاتها، وخرج من أهله ليكفر عن خطاياه. فسأله الملك:
وكم لك في هذا التجوال؟
بروس: نحو عشرين سنة.
الملك: لقد كنت صغيراً جداً لترتكب كل هذه الخطايا! لا بد أنك قد بدأت مبكراً جداً، ولا بد أنها كانت مع النساء.
وفي تواضع وأدب، أجاب بروس بأن بعضها كان من هذا النوع…
المك عدلان وفرسانه
ثم ذهب لمقابلة الشيخ عدلان الذي كان يسكن خارج سنار، في مكان أكثر ملاءمة للصحة. فوجد فيه رجلًا يختلف كل الاختلاف عن الملك، وجد قائدًا حقيقيًا من قادة الصحراء، له نظرة ثاقبة وبصيرة وقّادة. وكان يرتدي ثيابًا من الحرير القرمزي، ويتمنطق بخنجر مقبضه من الذهب الخالص، وعلى إصبعه خاتم من الياقوت الأزرق. وهو، من نواحٍ عديدة، يذكّرنا بالمماليك في مصر: العبيد المدربون على القتال، والخيول المزيّنة بالذهب والفضة، وحاميته المشهورة المكونة من أربعمائة من الخيول العربية الأصيلة، والتي كانت تُعرف بـ “حرس سنار الأسود”، الذي كان يسكن به رعب أعدائه ويدعم به حكمه. ومن المدهش أنه لم يحقق نفوذًا أكبر مما حققه، إذ إن حاميته كانت أكبر قوة ضاربة في مناطق النيل العليا، وكانت دائمًا على أهبة الاستعداد وفي منتهى الفعالية.
ولاحظ بروس أن كل رجل من رجال الحرس كان يعلق درعًا من الزرد بالقرب من جواده، مغطًى بجلد وعل مدبوغ بدباغة جيدة لدرجة النعومة، ليقي الدرع من الندى ليلًا. وفوق كل درع تتدلى خوذة من النحاس، وهي أروع قطعة في هذه التحفة الفنية. وبجانب ذلك، عُلّق سيف عريض في قراب من الجلد الأحمر، وعلى رمانته قفازان من الجلد السميك. إلا أن القفاز لم يكن مقسَّمًا إلى مواضع للأصابع كما هو معروف، بل كان شبيهًا بالقفازات التي نستعملها للوقاية من الشوك، وله جيب واحد توضع فيه جميع الأصابع معًا.
وبمثل هؤلاء الرجال سكن عدلان عالمه الصغير على ضفاف النيل الأزرق. غير أن المسلمين هناك كانوا منقسمين إلى قبائل متعادية، أكثر مما كانت عليه الحال في الحبشة. كما أن الانحلال الذي أصاب سنار كان بمثابة الورم الخبيث الذي أخذ ينتشر ويفتّت كيان الأمة. وهذه الدويلة الصغيرة الشبيهة بدويلات القرون الوسطى، كانت أقلَّ الأماكن على ضفاف النيل استعدادًا لمجابهة تلك الصدمة المدمّرة التي أوشكت أن تحلّ بها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فقد كان عدلان وفرسانه السود، كالمماليك في مصر، هدفًا سهلًا لنيران المدافع الحديثة.
لقد كره بروس سنارَ وهرب منها بمجرد أن تمكن من ذلك، ولكنه قبل أن يغادرها في سبتمبر سنة 1772م، كان قد جُرِّد من جميع ما جلبه من الحبشة من بضائع، وحتى السلسلة الذهبية سُلبت منه، ولم يتبقَّ له منها سوى ست حلقات، كان عليه أن يقيم بها أيامًا حتى يصل القاهرةَ التي تبعد عن سنار بحوالي ألفَي ميل. وبعد أسبوع أو أسبوعين من مغادرته سنارَ — على ظهور الإبل هذه المرة — وصلت قافلته الحلفايةَ عند ملتقى النيلين. والحلفايةُ كانت بلدةً صغيرةً جميلةً تشرح الصدر، رغم أن جميع مبانيها كانت من الطين، وكانت تقع بالقرب من النيل في موضع الخرطوم الحالي تقريبًا، ولكنها كانت تبعد عن النيل قليلاً. وقد لاحظ بروس أن سكانها كانوا يأكلون القططَ والتماسيحَ وفرسَ النهر. أما النيل الأبيض فلم يذكر بروس كلمة واحدة عنه، ويمكننا أن نتصوره مُشيحًا بوجهه بعيدًا عنه، غير مهتم بأمره، فكم كان مؤلمًا أن يسمح لنفسه — بعد كل هذه المخاطر التي واجهها وكل هذه المشاق التي كابدها طوال هذه السنوات — أن يفكر في احتمال وجود توأم آخر لنهره (النيل الأزرق) الذي ينبع من إثيوبيا، وأن يكون لهذا التوأم الآخر منبعٌ آخر في مكان آخر. وإذ سمح بروس لنفسه بالقول إن النيل الأبيض أكبر من النيل الأزرق، فقد رفض أن يطلق عليه لفظ النيل إطلاقًا، بل كان يشير إليه بـ«الأبيض»، وهو الاسم الذي يطلقه عليه الأهالي، ونحن لا يسعنا إلا أن نرثي لموقفه هذا.
لماذا لم يرى بروس مروي ؟
وعند وصوله الحلفايةَ كان التعب قد بلغ من بروس أقصاه، وزاد من تعبه وآلامه ما أصابه من مرض. فقد أُصيب بدودة الفرنتيد المستوطنة على ضفاف النيل، وهو مرض تسببه دودة طفيلية تنهش اللحم نهشًا. ورغم ذلك واصل بروس رحلته ووصل شندي في الرابع من أكتوبر. وهنا وجد نفسه على اتصال بالعالم الخارجي، فشندي كانت مركزًا مهمًّا تسير منه القوافل بانتظام إلى القاهرة، إلا أنها كانت قد تدهورت حتى لم يبقَ بها أكثر من خمسة وعشرين منزلاً، إلا أن سوقها قد ظل منتعشًا، وكانت البضائع بها أجودَ وأرخصَ مما هي عليه في سنار. وأدرك بروس أنه قد وصل إلى بلدة قديمة على النيل، فلأول مرة منذ أن كان في أكسوم قبل ثلاث سنوات يرى شيئًا من آثار المعابد الخربة. وعندما رأى خارج شندي أكداسًا من قواعد الركائز، وقطعًا مبعثرة من المسلات عليها كتابة هيروغليفية. إلا أن الطريق الذي سلكه لم يكن مارًّا بمنطقة الأهرامات، ورغم أنها لم تكن بعيدة عنه إلا إنه لم ينتبه إليها. وقد جاء في مذكراته ما معناه: «لا يسع المرء إلا أن يجازف بالقول بأن لا بد أن تكون هذه هي مروي القديمة»، ولا شك أن تخمينه قد أصاب كبد الحقيقة.
الملكة ستنا التي سحرت بروس
ومن الغريب أنه لم يذكر شيئًا عن قلعة شندي، ولكنه في خلال الأسبوعين اللذين قضاهما هنا، تمكن من تقديم فروض الولاء والطاعة لملكة المنطقة التي كانت تسكن خارج المدينة بنحو نصف الميل، وكانوا يطلقون عليها لقب «ستنا». وعندما استقبلته أول مرة كانت تجلس من وراء حجاب، ولكنه في المقابلة الثانية تمكن من إقناعها بالخروج من خلف الحجاب، فإذا بها امرأة في نحو الأربعين من عمرها، طويلة القامة، لها شفتان ورديتان وأجمل ما رآه في حياته من عينين وأسنان. وكانت ترتدي جلبابًا قرمزيَّ اللون، ويُزين رأسها تاجٌ رائعٌ من الذهب، بينما يتدلى شعرها في جدائل إلى ما تحت خصرها، فبدت له كأنها صورة مجسدة للملكة كنداكة المذكورة في الأساطير، والتي حكمت مروي في عهد الفراعنة ودانت لها كل المناطق الواقعة على ضفتي النيل، ما بين مروي والحدود المصرية. وحياها بروس بأن قبل يدها، إلا أنها أجفلت متراجعة وصاحت في تعجب قائلة: إن شيئًا من هذا لم يحدث من قبل! وامتقع لونها وضاعف من امتقاعه ما كان في الأفق من بهرج غريب وضَّاء. ويقول بروس إن هذا البهرج قد استمر طيلة أكتوبر من تلك السنة، وقد جاء فيما كتبه: «كان كوكب الزهرة يبدو وضَّاءً شديد الوهج طيلة اليوم دون أن يخبو ضياؤه لحظة واحدة، فكأنما كان يتحدى الشمس في أشد حالاتها توهجًا». وهذا القول لا يقبله العقل كثيرًا، رغم أن كوكب الزهرة كان قد اقترب كثيرًا من الأرض في تلك السنة.

وفي نهاية أكتوبر تحرك بروس مرة أخرى، ثم عبر نهر العطبرة وهو آخر روافد النيل، وقد وصفه بأنه كان عميقًا جدًّا ويبلغ نحو ربع الميل في اتساعه. وفي بَرْبَر استقر بعض الوقت ليأخذ قسطًا من الراحة وليبتاع مزيدًا من الجمال، قبل أن يقتحم ذلك الطريق المرعب من طرق القوافل الذي يخترق الصحراء مباشرة إلى أسوان، ويمتد إلى أربعمائة ميل، إلا إنه كان أقصر من الطريق الآخر الذي يتابع النيل في انحنائه العظيم نحو الغرب. ثم زار شاطئ النيل للمرة الأخيرة، وهنا يقول: «وأخذت أسبح لنصف ساعة في شغف وسرور، وبهذا ودعت رفيقي القديم وكلي شك في أن نلتقي مرة أخرى». وفي الحادي عشر من نوفمبر سنة 1772م، كان بروس وثمانية آخرون قد وضعوا أنفسهم تحت رحمة الصحراء. وقد ذكر بعض الرحالة المتأخرين أن بروس قد بالغ كثيرًا فيما لاقاه من أهوال بهذا الطريق، وخصوصًا فيما أسماه «بالسموم»، ذلك الهبوب العاصف الذي يرفع الرمل في عَمَدٍ عالية تخترق عنان السماء كأنها أعين نضاخة من الماء. ثم يقول: «وكان التأثير المباشر علينا هو الصمت الرهيب، ثم القنوط وعدم الاكتراث بالحياة». إلا أنه من الإنصاف أن نتذكر أن الرجل كان منذ أمد قريب في مناطق جبلية باردة، ومن المحتمل أن يكون قد صادف موجة حر غير اعتيادية، ومما يحملنا على هذا الظن أن بروس يقول إنه كنتيجة لما قاسوه، أن أُصيب أحد رجاله بمسٍّ من الجنون، مما اضطرهم لتركه تحت رحمة الصحراء. ثم نفقت جماله فكان لا بد له من ترك مَزْوَلته وكل ما أمكنه الاستغناء عنه من متاع على قارعة الطريق. وأخيرًا أُصيب بالعرج لما ظهر بقدميه من تقرحٍ وتقيح. أضف إلى كل ذلك أنهم كانوا في مناوشات مستمرة مع الأعراب الذين تعودوا السلبَ والنهبَ عند أماكن الري. وفي الثامن والعشرين من نوفمبر رأوا بعض الطيور النهرية.. وكالملاحين الذين يستدلون بقرب اليابسة بما يرونه من أخشاب طافية على سطح الماء — فقد استبشروا بقربهم من النيل. وفي اليوم التالي كانوا يجرون أذيالهم في إنهاك وإعياء نحو مشارف مدينة أسوان بعد أن قضوا ثمانية عشر يومًا في رحلتهم هذه. ويمكننا القول بأن بروس قد عاد الآن إلى أحضان العالم المتمدن، فقد كانت مصر لا تزال تحت قبضة المماليك، وكان هو لا يزال محتفظًا بالفرمان الذي تحصل عليه من والي القاهرة. وفي أسوان وجد كل حفاوة من حاكمها الذي ساعده على استعادة ما خلفه بالطريق من متاع. وفي الحادي عشر من ديسمبر أقلع في مركب إلى القاهرة فوصلها بعد شهر وهو في حالة سيئة من الإعياء والألم مما أصاب قدميه، وكان — وهو في هذه الحالة وفي أسماله البالية — لا يختلف كثيرًا عن أي شحاذ. ومكث شهرين بالقاهرة ليستعيد صحته ويستجمع قواه، ثم أبحر بعدها إلى أوروبا.
المصادر:
كتاب النيل الأزرق – تأليف: آلان مورهيد. ترجمة: د.إبراهيم عباس أبو الريش. دار النشر : دار بدوي.
اترك تعليقاً