القلب المفتوح

الكاتب: محمد النوراني

طوال موسم الحصاد في (تالو)، قرب الحدود بين السودان وجنوب السودان، كان (كجونكا) يقود فرقة مرتَجلة من الصِبية تقرعٌ الطبول، ومن خلفهم، تغني الأمهات والآباء وهم يجمعون محصول الذرة الوفير. وحاول جاهدًا الإبقاء على الإيقاع، طمعًا في أن يجد مكانًا في الاحتفال الكبير آخر الموسم، حيث يرتدي الرجال قرون الثيران على رؤوسهم ويثبتون سلاسلاً من قطع الحديد على أقدامهم. حين يرقصون، يصيرون رقصة وأوركسترا في آن، وتأتي الجميلات من كل القرى ليرقصن ويضربن بأقدامهن الأرض حتى تستيقظ أرواح الأجداد. لكنهن ذلك الموسم لم يحضُرن، ولم يتم الحصاد. لقد دكت طائرات الأنتنوف القرية بالبراميل المتفجرة صباح يوم الحفل المرتقب، فهرب (كجونكا) وأسرته إلى الخرطوم. لكن (كجونكا) واصل قيادة ذات الفرقة آملين بالعودة يوما الي القرية وموسم الحصاد، جابوا الشوارع حاملين آلات موسيقية مصنوعة من أغطية المشروبات الغازية، المثبتة على عصى قصيرة. يحركونها فتصدر رنيناً لتُنبه أن ملمعي الأحذية بالجوار. وبين دروس الأحد في كتدرائية القديس (ماثيو) وحلقة المصارعة في (الحاج يوسف) يوم الجمعة، قضى أيامه يحلُم بالطبول ومواسم الحصاد، حتى اندلعت الثورة حينها أصغى العالم كله الي ايقاعه.

ففي اليوم التاسع للاعتصام ، استيقظ الثوار على نبضات قلب، ينقبض وينبسط بقوة الحياة. كان مائة وسبعون من الصبيان الأشداء يحملون العصي والأحجار ويضربون على الواح جسر السكة الحديد أمام مقر قيادة الجيش. وطوال ايام الاعتصام ، ظلوا ينبضون، بصبر وعزيمةـ لم يكفوا إلا عند صباح المجزرة حين أجهِض الحلم الخديج في شهره الثاني. في الواقع ولتحري الدقة لقد توقفوا لثلاث دقائق عندما قدم قطار ثوار (عطبرة) حينها، غادروا الجسر ليفسحوا الطريق، لكن سائق القطار ظل يطلق صافرة متقطعة بذات النبض. وحين عبر القطار، أعاد (كجونكا) وفرقته النبض من جديد للاعتصام، كانت تلك أكبر عملية قلب فتوح يشهدها العالم.

محمد النوراني

كانون الاول 2023


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *