الكاتبة: مزنة محمد
البيت… أول ساحة للصراع السياسي
لقد عانى السودان لسنواتٍ طويلة من الخلافات السياسية و المعتقدات المغايرة التى تبدأ على مستوى الأسرة الصغيرة ثم تمتد وتخلل بِسُمِّيتها الأسرة الكبيرة. فبين حربٍ و سلام، وعدد قبائل يتجاوز ال ٥٧٠ قبيلة، تجد في الأسرة الممتدة ما يقارب الخمس انتمائات سياسية مختلفة، كما تجد أن بعض العائلات العريقة تقاتل باستماتة للمحافظة على إرثها المقدس بالانتماء لحزب سياسي واحد على مر الأجيال، بل و قد يصل الأمر إلى العداء و التعنيف لأي فرد يفكر مجرد التفكير في محاولة تغيير مجرى الأمور”و يتم اتهامه بأنها محاولة منه جلب العار للأسرة، فالحزب السياسي لدى البعض بمثابة الدين -بل و أقرب إليهم من حبل الوريد-“
حكاية (ط.ج): حين يصبح الانتماء السياسي تهمة عائلية
(ط،ج) وهي شابة في أواسط الثلاثينات من عمرها من أسرة عسكرية، و في العشرينات من عمرها درست رياض الأطفال في إحدى الجامعات الحكومية بشمال غرب ولاية الخرطوم، و كانت ترتاد -ركن نقاش- جامعتها بشكل مستمر(٢٠١٥-٢٠١٦)، و كانت حينها تكتفي بالاستماع و تلقي المعلومات و أحيانا التدوين، حتى أخذت قرارها بالانتماء للحزب الشيوعي السوداني، و سرعان ما هامت بحزبها و تفاخرت به، و لكن خوفها من أسرتها منعها من الإعلان عن قرارها في بداية انتمائها للحزب، حتى غلبت شجاعتها خوفها، معلنةً صراحةً و جهرا على صفحات التواصل الاجتماعي:
“لو لم أكن شيوعية، ماذا كنتُ أصبح؟” وصل المنشور لأسرتها بسرعةٍ فائقة و ألحق بها قرارها عواقب وخيمة، إذ تم تعنيفها و حبسها بالمنزل و منعها حتى من الذهاب إلى دورة المياه، فأجبرت على قضاء حاجتها في دلو وضع على مقربة من سريرها، كما انتزعوا منها هاتفها و حذفوا جميع صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. بدأ أصدقائها بالقلق عليها و قرروا الذهاب لمنزلها و سؤال أسرتها عنها و الاطمئنان عليها، وشدوا رحالهم لبيتٍ ظنوه آمنا متناسين أن أصل المعتقلات هي بيوت صغيرة حُرِّمت فيها حرية الرأي فأصبحت نظام قمعٍ مصغر. عند وصولهم لمنزل صديقتهم فتح لهم الباب خالها -أحد أهم عسكري الأسرة(ع،م)- و شهر عليهم سلاحه صارخا:
“لن يدخل بيتنا كافر، و صديقتكم القامعة بالداخل تلك، إن أصرت على إتباعكم فزيارتكم التالية ستكون لتأبينها” فسرعان ما غادروا مجرجرين أثواب الخيبة والاحباط، بل و الخوف على مصير صديقتهم.
عانت(ط،ج) من أشد أنواع الضغط النفسي، و مساومتها على الاختيار بين دراستها- حزبها أم التخلي عن كليهما و الزواج من ابن خالها(المذكور سابقا). سائت حالتها النفسية و خسرت الكثير من الوزن، و واصلت أسرتها في أساليبهم القاسية لجعلها تُغير رأيها، و لكنها فاجأتهم بتمردها حيث أضرَبت عن الطعام و لم تتوقف عن إضرابها حتى تدهورت حالتها الصحية بشدة مما اضطرهم لنقلها لمشفى قريب. و هنالك نال الشك من كوادر المستشفى لما وجدوه على جسد الضحية من آثار للضرب و كدمات عدة فشرع الطبيب المتلقي للحالة بفتح بلاغ (تعذيب) وصُعِّدت الأمور بشكل بالغ مما دفع أسرتها للبدء في دفع الرشوات وادخال الوساطات لحل الأمر قبل أن يصبح قضية رأي عام، و لكن عَطّل خطتهم تدخل أصدقاء الضحية و أعضاء حزبها للإدلاء بشهاداتهم، و لكن رغم ذلك أُغلقت القضية لصالح أسرتها بسبب فساد الحكومة آنذاك.
أثرت تلك التجربة الصعبة على (ط،ج) تأثيرًا بالغًا على كِلا المستويين النفسي و الاجتماعي، فمن الجانب النفسي فقدت ثقتها بنفسها و بأفراد عائلتها و بعدالة الحكومة، حيث غلب فسادهم قوة قضيتها و الظلم الذي تعرضت له؛ و بالنسبة للجانب الاجتماعي فقد أثر ذلك على علاقتها بالأسرة الكبيرة، حيث رفضوا تقبلها و أصبحت العلاقات معقدة و غير صحية البتة، و قطع خالها علاقته مع والدتها رغم تقبل الأسرة الصغيرة لانتمائها لاحقا.
من العنف الخاص إلى الاستبداد العام
الجدير بالذكر أن (ط،ج) ليست الحالة الوحيدة، بل هي واحدة من حالاتٍ عِدة ضاعت حقوقهم وسط نظام قمع لا يرحم، فإن الحرب المُضرمة في السودان الآن لم تبدأ فجأةً كظاهرها بل سِيقت تِباعا بِدءا من رفض الحُرِّيات و العمل على دفنها سريعا من قبل الأفراد، من ثم المجموعات الصغيرة (العائلة- الجيران- الزملاء) ثم المجموعات الكبيرة (الحكومات و السلطات المتتابعة) فأصبح سلب الحرية و النفيّ هو مصير كل من اختار توجها رُفض و أُطر بالوصمات المجتمعية…فما كان للمختلفين عزائا يا وطني؛ و هل يُصبح؟
المصادر:
مقابلة شخصية مع (ط،ج)


اترك تعليقاً