الغرابُ أعلى عمود الإنارة

·

·

للكاتب : عبدالرحمن عباس يوسف 

قُبَيْل الغروب، والشمس المُحمرّة تشدّ رحالها عن الحي (ب)، وفي غمرة انشغال السكان بشؤونهم، هبط طائرٌ أسود وحطّ على عمود إنارةٍ قديم في تخوم الحي بدا مثل تُحفةٍ أثرية تشهد على قِدَم الحي وعتاقته. لم يكن مألوفًا تواجد طائر من فصيلته في تلك الأرجاء، لذلك حين لمحته النِسوة انتابهُنّ الهلع، فدلفنَ ساحباتٍ أطفالهنّ إلى البيوت، في حين بَقِي بعض الفتية يتأمّلون ذلك الطائر ويردّدون هامسين: “الغربان دائمًا كاذبة، الغربان دائمًا كاذبة!”.

 كان الغراب أسود اللون تتخلّله ريشاتٌ بيضاء مثل الشيب، منقاره معقوفٌ مثل خنجر مُقوّس، يلمعُ ببريقٍ خافتٍ من أعلى ريشةٍ في رأسه الصغير وحتى أظافر قدميه الرفيعتين. وقد بدا باحثًا عن شيء ما، حين أمال رأسه وقَلّب عينيه اللامعتين في محجريهما. كانت عيناه حمراوين تشِيان بحزنٍ آدميّ عميق. وعندما نعَق بصوتٍ مُتهدّج يشبه نواح أُمٍّ ثكلى طارت الطيور الأخرى، وغاص الحي في صمت مُطبق. في غضون لحظات هبط الظلام وابتلع الحي (ب) في عتمته غير المحدودة، وبقِي الغراب وحيدًا يُحدّق في الشوارع الخالية المضاءة بصُفرةٍ تبعثها المصابيح القديمة أعلى أعمدة الإنارة وبعض الأضواء الهاربة من نوافذ البيوت والمحلات الصغيرة.

لا يذكر الغرابُ المدّة التي مرّت على آخر مرّة كان فيها هنا، لكنّه يذكر على وجه الدقة بضعة أشهرٍ من حياته السابقة، ولا يراوده الشكّ في أنّه فقد أحدًا غاليًا على قلبه خلال ذات الأشهر الملعونة العالقة بذهنه، ويعلم أنّه ومنذ ذلك الحين فقد الإحساس بالزمن، فصار ليله يدفع نهاره دون أن يدري كم مرّ من أعوام. لكنّه فقط يجدُ نفسه مُحلّقًا في الفضاء من أرضٍ إلى أخرى؛ ناعقًا بصوتٍ عالٍ وكئيب، باكيًا فقدانه لشيءٍ ما يعجز عن استحضاره، شيءٌ ما كان جزءًا أصيلًا من كينونته في ماضٍ سحيق من حياته.

تأمّل الغراب شوارع الحي بتمعّن، فأدرك أنّه يألف تلك الأرض؛ شعر بقلبه ينشرح، وبتياراتٍ من الكهرباء تسري عبر جسده النحيل، وبغتة حاصرته الذكريات دفعة واحدة ليجد نفسه أمام الحقيقة التي سعى خلفها طويلًا، بعد أنْ فطِنَ إلى أنّ هذا الحي هو موطنه الذي غادره قبل زمن بعيد. تناهت إلى ذهنه  مشاهدٌ مندفعةٌ كسيلٍ جارف، فرأى نفسه قبل نصف قرن. وقتها كان رجلًا في منتصف عقده الرابع، زوجًا مُحِبًّا وأبًا لطفلة، يسكن الحي (ب) وسط الكثيرين من بني جلدته؛ يعيشون في سلام، يحبّون الحياة ويعيشونها بعنف، يستيقظون في الصباحات الباكرة، متوجّهين صوب أعمالهم، ويودّعون أطفالهم وهم يمضون إلى مدارسهم عند أطراف الحي، يعودون عند الغروب في جماعات، يتبادلون أطراف الحديث ويضحكون من قلوبهم، ويتقاسمون المحبة والشقاء وتراب الحي. كانت حياتهم تسير بسلاسة، مثل شخصياتٍ خيالية في بطن حكايةٍ سعيدة، حتى أتى ذلك الصباح المشؤوم، حين اكتسحت قوات الكوماندور الحي وسلبته هدوءه، وعاثت فيه الفساد.

 كانوا قد جاؤوا باكرًا قبل أن تصحو العصافير، حاملين بنادقهم مُتقنة الصنع. جاؤوا مهرولين في أسمالٍ ثقيلة ومُبرقعة تُخبِرُ أنّهم جُندُ الدكتاتور، السفّاح سيء السمعة. من غير إنذار كانوا يقتحمون البيوت، يروّعون القاطنين الآمنين، يصرخون بأعلى ما استطاعت حناجرهم، صائحين بأصواتهم القميئة. انسلّ الناس كالنمل هاربين من مخادعهم، مُرتدين مناماتهم، شعورهم  مُشعّثة والفزع يطفح من أعينهم ويتدفّق.

 كان الرجل الثلاثينيّ يراقبهم من نافذته المكسوة بالغبار، وقد سرت القشعريرة  في جسده. تسمّر في مكانه، عندما أحسّ بحركة مريبة، وحينما التفت أبصر أحد الجنود يُردِي زوجته وطفلته الوحيدة، زهق روحيهما ببساطة ومضى إلى سبيله. بقِيَتْ عينا الرجل ساهمتين في الجثتين الهامدتين أمامه. أحسّ بأنّ العالم يتداعى ويتضاعف، وأنّ شيئًا بداخله انطفأ إلى الأبد. تسربل في سوادٍ معتم، وانهمرت دموعٌ دافئة من عينيه البرّاقتين الغائبتين في الضياع. شعر بالفتور والإعياء يُطوِّقان روحه المنكسرة. صرخ من أعماقه بما يشبه النواح، وأحسّ بخلاياه تتداخل، وبعظامه تنسحق، وبمساماته تتسع. نمت شفتاه باطراد، ثم استَدقَتا. تكوّرت عيناه واسودّتا، نبت ريشٌ أسود وغطّاه مثل ليلٍ ألْيَل، ثم تحوّلت يداه إلى جناحين شراعِيَيْن طويلين. ارتفع عن الأرض بلا وعي منه، ونعق بصوتٍ أجش، وكلّ ريشة في جسده النحيل كانت ترتجف!

 حينها فقط أدركَ أنّه قد تحوّل إلى غراب.

بعد تلك اللحظات القلائل أحسّ بأنّ كلّ شيء قد اختلف؛ ما عاد العالم يعني له شيئًا، إذ فقد في جزءٍ من ثانية أعزّ ما لديه، فضلًا عن كونه لم يفهم كيف لرجل أنْ يتحوّل فجأة إلى غراب. لم  يمهله المجتاحون وقتًا ليفهم ما آلت إليه حياته؛ إذ كانت الأرض تهتزّ تحت أقدامهم، وصرخات المستضعفين تتوالد بين اللحظة والأخرى شاحنةً الجو بالبؤس والكآبة. طار الغراب من نافذته، وحطّ على عمود إنارة كانوا قد نصبوه حديثًا، ومن العلو استطاع رؤية الغزاة يسلبون حيوات السكان. رأى الرجال والنساء والأطفال يهربون إلى المجهول ومن خلفهم تُمطر الأعيرة النارية من أسلحة حديدية تحملها أيادي الغزاة، ومع كلّ روح تصعد إلى السماء وجسد يرتطم بالأرض، كانت ضحكات مقيتة -تفوح منها رائحة الموت- تتعالى وتطغى على استغاثات المهرولين وهم يستجدون حياتهم.

كان الموتُ في كلّ شبرٍ من عالمه، وعلى مدّ البصر كان القتلة ينتشون من المتعة. وفي خضم تلك الفوضى أبصر طفلةً وحيدة تحمل بيدها دُمية قماشية، تركض بلا وجهة، تقفز متحاشيةً الجثث المتناثرة في كلّ مكان، تتجنّب الجنود، تركض لساعاتٍ طويلة باحثةً عن مخبأ من الموت، وهو يتابعها بعينيه الحزينتين الخاليتين من أيّ أثر لحياة. رآها تدلف  إلى البيوت؛ الواحد  تلو الآخر، غير أنّها لا تجِدُ سوى الموت والعيون الشاخصة في انتظاره. بعد رحلةٍ بدتْ بلا نهاية عثرت على عشراتٍ من قومها مختبئين في الخزائن، ومتلاصقين تحت الأسِرّة والأرضيات وعند أسقف المنازل، حاولت أن تختبئ معهم لكن ما من متسع، فهربت من جديد في رحلتها العبثية التي بدتْ بلا وصول.

بعد ساعات كان الغراب يحلّق على مقربةٍ من الأرض، متأمّلًا الوجوه الغارقة في سفرها السرمديّ. نعق بألمٍ  حين تعرّف على صاحب دكان البقالة، وبائع الخضار، وفتى المخبز، الذين كانوا في أمسه القريب يحدّثونه ويلقون النكات ويضحكون. ولمّا قَفَل راجعًا إلى عمود الإنارة تراءت له من البعيد أشباح الجنود وهم يقتحمون البيوت؛ يقلبونها رأسًا على عقِب، يحطّمون الصور المؤطّرة للعائلات ثم يدهسونها بأقدامهم، ويسرقون ما استطاعوا من حُلي ومقتنيات ثمينة، ويمجّدون الدكتاتور الذي منحهم الفرصة ليتخلصوا من الدُون الأنجاس.

في المساء كانت المصابيح اليدوية تُلقي بوميضها الكهرمانيّ إلى عشرات العيون المتوارية خلف الخزائن وتحت الأسقف وأسفل الأسِرّة والأرضيات الخشبية، العيون متسعة الأحداق التي كانت تفيض بالقلق والخوف، وتلمع داخلها مئات الأسئلة قبل أن تخمد إلى الأبد تحت وابل الرصاص.

في الصباح التالي استيقظ الغراب على جلبةٍ أحدثها الجنود وهم يقسّمون الناس إلى مجموعات، إلى العمل الشاق أو إلى المصير الحتمي: الموت. ونكأ جراحاته أنْ سمع من ضمن ما سمع همس امرأة شابة إلى رفيقتها. كانت تقول لها: (الجزء الأصعب قد انتهى)، وذلك بعد أن اختيرتا ضمن فئة العمال، وفي تلك اللحظات المنسية من عمر الكون سمعَ الموت يخنق ضحاياه في ذات الساحة الواسعة. كان الكوماندور قد استيقظ لتوّه، وقف على شرفته يتمَطّى ويتأمّل المجموعات الفَزِعة من البشر في الساحة وهو يدخّن التبغ ويُربّتُ على كرشه الصغير. دلف إلى الداخل شاعرًا بالضجر، وعندما وقعت نظراته على سلاح القنص فكّر أن يُمَتِّع نفسه الشرهة المتعطّشة للدماء. حمل سلاح القنص، ومن خلال المنظار رأى شابةً مطمئنة بعد اختيارها عاملة. كانت تحمل دلوًا وتمشي بهدوء، عندما تهَشّم رأسها تحت وطأة الرصاصة التي جاءتها غادرةً من الشُرفة البعيدة. واصل الكوماندور تدخين سيجارته وطفِق يعزف على البيانو، ومع كل ضغطةٍ منه كانت الرصاصات في الخارج تغادر فوهات البنادق، وفي أجزاء من الثانية تستقر في الأجساد المرتجفة، لتسكن إلى الأبد. حينها بكى الغراب وطار بلا وجهة، وحامَ حول الحي حتى تخشّب جناحاه. فوقه كانت السماء رماديةً مغطاةً بالأدخنة الداكنة، وعلى امتداد الأفق كانت أطنانٌ من الرماد تعلو الجثث المتكوّمة في الساحات عقب حرقها. وبعد أيام كانت الرائحة النفّاذة التي تفوح من الأجساد المحترقة تُزكم الأنوف، ما اضطر الغزاة إلى دفنهم. وشاهد الغرابُ العمّال وهم يجرفون الرماد المُتكوّم ويكشفون عن الجثث المتفحّمة تحته، ثم التي شرعت في التحلّل، ثم ينقلون الجثث- وهم يبكون- في حاويات ضخمة ليلقوا بها في مقابر جماعية، قبل أن يهيلوا عليها التراب.

لمّا تشبّع الغراب بتعاسته غير المحدودة طار مبتعدًا عن الحي، من غير أن يكون له وجهة، و مدفوعًا بألمه الجمّ راحَ يجوب الأرض الواسعة.

***

 مضت السنوات سريعة على الغُزاة، وطويلة على الغراب كأنّها الدهر. ولأنّ الدنيا هي الدنيا لا تستقرّ على حال، فقد انتهت الفترة التي سادَ فيها حكم الجُناة، ومن بعد قوة تحوّل حالهم إلى الضعف، هُزِموا وذاقوا مُرّ ما أذاقوه لغيرهم. سِيقَ الكوماندور إلى المقصلة، وبقِي رأسه المقطوع مُعلّقًا جوار جسده لأيامٍ وليال. حُوْكِمَ الجنود الذين كان لهم دورٌ في الاجتياح والغزو، لكنّ القتلى من الحي (ب) لم يعودوا إلى الحياة، والغراب في سعيه الدؤوب لم يعرف طريق العودة إلى الوطن. ولسنواتٍ طوال ظلّ الغراب يطوف الأرض باحثًا عن الراحة، باكيًا ما فقده عندما اجتاح الغزاة الحي(ب) في غفلة من ساكنيه. وفي كلّ بقعةٍ يهبط إليها كان ينعق بكآبة، حتى شاخَ.

أخيرًا وجد نفسه عند ذات عمود الإنارة، صحا من سيل الذكريات المتدفقة شاعرًا بأنّ ضياعه قد انتهى، وأنّ الرحلة الطويلة قد آلت إلى وصول. أحسّ بصدره ينشرح، رغم الألم العميق الذي راوده بعد أنْ نكأ جراحه القديمة. حرّك رأسه مستكشِفًا الحي، وجده قد اختلف كثيرًا، يقطنه غرباء لكناتهم غريبة. ورغم أنّه عثر على نفسه أخيرًا فوق ذلك العمود، إلّا أنّه ولأوّل مرّة شعر بالغربة في موطنه. فكّر في أن يبوح للعالم أجمع؛ أن يبكي ويبُثّ أحزانه، لكن من سيصدّقه، فالغربان دائمًا كاذِبة! 

بكى الغراب من صميم روحه المنكسرة، وعندما بلّلتْ دموعه بلاط الشارع وانسابت، كان قد طار عن عمود الإنارة، ثمّ تشظّى إلى آلاف الجزيئات الضئيلة، قبل أن يصير إلى رماد. هبّت رياح عاصفة، ونثرته في الشوارع، وفوق أسطح البيوت، وعلى أوراق الشجر، وبين ذرات التراب، وفي كل شبرٍ من الحي (ب).


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *