الخَرَزُ الزجاجيةُ (السُّكْسُك) وإستخدامها في الزينة عند قبيلة شلو (الشلك)

·

·

,

سايمون أبرام

تهتم قبيلة شلو Cøllø (الشلك) بالزينة مثلها مثل سائر الشعوب الأخرى ، وهي تولي الزينة مكانة رفيعة في المجتمع ، بل تراها جزءًا لا يتجزأ من حياة أفراد القبيلة من الجنسين إناثًا كانوا أم ذكورًا ، والزينة عند شلو ترتبط بكافة مظاهر الحياة من المسكن والملبس ومظهر الإنسان وحيواناته الأليفة وغيرها.. وينظر المجتمع الشلكي إلى الشخص الذي لا يتزين نظرة احتقار في بعض الأحايين ، لكنه يبجل أولي الزينة والتجمل ، بل قد يتعدى ذلك إلى مناداتهم بلقب ” جال ضوانق ” Jaldhwäng أو “نياضي ضينق ” Nyadhedhwäng والذي يفسر بسيد الحسن أو سيدة الزينة ، ويجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة ضوانق Dhwäng المستخدمة لوصف الزينة عند شلو فهي نفسها تلك المستخدمة للإشارة إلى المجد ، الأمر الذي يمكننا تأويله إلى أن من يهتم بزينته إنما يتصف بالرفعة والمجد.


وإذا عرجنا إلى أدوات الزينة عند شلو بصفة عامة فهي كثيرة متتعدة ومتباينة لا يسعنا الحديث فيها وعنها هنا ، بل وددت بهذه المقدمة أن أصل وإياكم إلى النقطة التي أريد الحديث عنها وهي استخدام الخرز Tigg كأداة مهمة للزينة عند شلو ، ولكن استميحكم عذرًا في البدء كي نعرف الخرز:

يعرف معجم الرائد كلمة خَرَز بأنها حب زجاج أو غيره يثقب وينظم في سلك فتتخذ منه العقود أو السبحات..

وفي معجم الغني : كل حَبٍ من زجاج أو نحوه أي فصوص ، وعندما نقول خَرَّزَ الشيء: يعني وشاه أو زينه . ومن هنا نأتي إلى أن الخرز أداة للزينة والتَّزَيُّن.

يجد الباحث المجتهد في التاريخ أن أفراد قبيلة شلو استخدموا الخرز منذ أمد بعيد وارتبط ذلك ببعض العادات والتقاليد التي تقتضي ممارستها وجود الخرز التي تنظم في شكل عقد يطوق بها أجزاء من جسم الإنسان وهي:الرأس ،الرقبة ، الخاصرة ، معصم اليد ، العضد وكذلك الجزء السافل من الساق عند الكاحل. عرفت شلو أنواعًا غير زجاجية من الخرز قديمًا والتي كانوا يصنعونها محلياً من مواد هي سن الفيل Lëëj Lyej وقشر بيض النعام ، فمثلاً يلبس الشلكي في رقبته أداة للزينة تسمى ” أقور” Ágør تصنع فصوصها من سن الفيل قديمًا وهي كبيرة نوعاً ما ولكن قد استعيض عن سن الفيل بمواد أخرى اليوم لندرة الأفيال وما ارتبط بها من تشريعات حماية الحياة البرية حديثاً . كما يلبس الشلكي عقداً في رقبته أيضاً يسمى ” ريق” Règ وهذا العقد ينظم من فصوص صنعت من قشر بيض النعام Päddí tøngg wudø وينحصر لبسه عند ملك مملكة شلو ” رض” Rädh وكذلك أمناء ضريح نيكانقو مؤسس المملكة والوسطاء الروحيون أي رجال الكجور، بالإضافة إلى شيوخ القبيلة أي ذوي المنصب القيادي بالقبيلة وذلك لما يحمل “ريق” من سمة أو اشارة سلطوية أو قيادية أو روحية.

توسع استخدام شلو للخرز وخاصة مع اتصال مملكة شلو بالعالم الخارجي متمثلاً في الرحلات التي أقامها الكثيرون من المستكشفين إبان الإستعمار سواء أن كان التركي المصري أو في عهد الدولة المهدية وكذلك الحكم الإنجليزي المصري  ، بغرض استكشاف منابع النيل أو غارات صيد الرقيق ..

فيذكر البكباشي سليم قبطان في رحلته إلى أعالي النيل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي 1839- 1840 أنهم أهدوا شيخًا من الشلك(شلو) مع مرافقيه ثيابًا وشالاً وتحفًا مصنوعة بالخرز والزجاج مقابلاً لما نالوا منهم  من هدايا أيضًا ، بل كان يفعل ذات الشيء مع كل قرى الشلك المنتشرة على امتداد النيل.ومن الشواهد التاريخية الهامة إبان المجاعة الشهيرة  1888 – 1889 أي مجاعة سنة 1306هـ  ، والتي ضربت عاصمة الدولة المهدية أمدرمان ، لجأوا إلى أطراف السودان طلبًا للذرة وعندما انتهت واردات الذرة التي كانت تأتي من النيل الأزرق أي استنزفت تمامًا ، استمرت فشودة حتى عام 1889م كسوق لواردات الذرة ، وكان المزارعون من أهالي فشودة يتلقون مقابل الذرة السكسك (الخرز) الزجاجي وقطع من النحاس والحديد والودع والريالات المجيدية القديمة.

عرفت قبيلة شلو(الشلك) الخرز الزجاجية  فوجدوا فيها ضالتهم وأبدعوا بها في صناعة الزينة  لما تمتاز بها من سهولة الإستخدام ، الخفة ، والأشكال والألوان المختلفة المتعددة  ذات القيم الجمالية تعداها إلي قيم ومدلولات اجتماعية ودينية غاية في الادهاش فمثلاً تدخل عقود الخرز –بجانب الزينة- في بعض الطقوس:

  • تنصيب ملك الشلك Rädh والعمد (رؤساء عمديات عموم المملكة) Jagg Cøllø والوسطاء الروحيين(الكجور) Ájwögg .
  • التمييز ببعض الحالات كالمرض لمدة طويلة والسجن والظهور بعد الإختفاء أو الإعتقاد في موت أحد لكنه كان حياً، كما يميز الناجي أو الناجية من حادث خطير بتقليده الخرز.

وثمة ألوان رئيسة من الخرز المستخدمة في الطقوس سالفة الذكر ذات مدلولات ترتبط بالآلهة أوالأسلاف أو الكجور ،وهي أربعة ألوان رئيسية  أولها :

اللون الأسود Ditäng ويرمز إلى الله الخالق Jwøng-a Ácwääj

ثانيها:اللون الأخضر  Omarø ويرمز إلى نيكاي  Nyikayø

ثالثها :اللون الأحمر  Didïgø ويرمز إلى كير  Kir

رابعها: اللون الأبيض Obøw ويرمز إلى نيكانق  Nyikangø ودينق Deng وهو اللون الأكثر استخدامًا لأن شلو يتخذون من اللون الأبيض لونًا للسلام والصفاء والطهارة والنقاء 

نيليو Nyilewø – خرز ذيل الأسد

ومن أشهر عقود الخرز التي يتزين بها أفراد قبيلة شلو ما اسمه: نيليو Nyilewø ، يلبسه الجنسين على حد سواء وهو عقد حلقي واسع القطر ،ذو ذيل ينتهي بخصلة من الشعر يماثل ما للأسد إلى حد كبير ، الأمر الذي جعلني أعتقد شبه جازم أنه مستوحى من ذيل الأسد عينه، ويمتاز نيليو بألوان متعددة تتراوح ما بين لونين أو ثلاثة ألوان في أبعد الفروض إذ ندر ما يتعداه إلى أكثر من ثلاثة ألوان، وهي ذات مدلولات تتعلق بالمتزين من جهة رمز عمديته ، قريته أو جماعته Yay . وينبغي الإشارة إلى أن هذه الرموز كانت موجودة بالفعل منذ أمد بعيد إلا أن إحالة وتطبيق ألوانها على نيليو ذلك العقد مؤخرًا ، لهو تطور ملحوظ بل بالأحرى محمود.

أما فيما يخص الخرز الأبيض :
  يُستخدم الخرز عموماً على نطاق واسع عند قبيلة شلو ، بل صار جزءاً متأصلاً في زينتهم وبعض الطقوس ذي دلالات خاصة، كتتويج ملك القبيلة، وتنصيب عُمد عمديات شلو وشيوخ المناطق والقرى، ولا سيما تكريس رجال الكجور،  كذلك يُوضَع لمن شُفي من مرض بعد لزومه الفراش مدة طويلة، ومن نجا من حدث خطير، ومن بان بعد اختفاء أو اعتقد أهله بموته، ولكن يلاحظ أن الخرز الأبيض قد نال نصيب الأسد في الاستخدام الطقسي وذلك مرده بكل بساطة أن الخرز الأبيض يرمز إلى البركة والسلام والبر، هذا ما جعل القبيلة تنسب هذا الخرز إلى نيكانق زعيمها الروحي، فتم ربطه بكل طقس أو قل كجور يرتبط بنيكانق فهو بالضرورة عند شلو دلالة على البركة والسلام والبر، ومن هذه الطقوس التي يراد بها الخير على سبيل التدليل لا الحصر، فعند شلو عقب دفع مهر العروس عند شلو وبعد  انتهاء مراسم الزواج يأتي دور زفها إلى عريسها حيث تبدأ مرحلة جديدة، ولكن قد ترفض العروس الانتقال إلى بيتها تعلقاً بامتيازات مرحلة الشباب الحرة التي على وشك فقدانها، قد تترك إلى حين ولكن لن تطول المدة حتى تؤخذ إلى مقامها على مضض، هذا بلا شك قد تحملها على الهروب والعودة إلى بيت أبيها ليس رفضاً لعش الزوجية بل لما ذكرنا آنفاً، ولتجافي هروبها يأتي دور طقس ربط الخرز (السكسك)، يتم هذا بُعيد وصول العروس لبيت الزوجية، يقوم رجل وامرأة كبار السن بقطع جزء يسير من الأذن اليمنى لحمل جيء به لهذا الغرض، ويقسم ذلك الجزء إلى قسمين، يثقبان ويضاف إليهما الخرز الأبيض بخيط ليتم ربطهما في الرجل اليمنى لكلٍ، بعد هذا الطقس المهم لا تستطيع العروس الهرب، لأنها بهذا أصبحت تحت القسم، ولن تراقب فيما بعد لأن الخرز الأبيض يضمن بقاءها. كذلك في حالة المرض يأخذ المريض ذبيحة سليمة أي بلا عيب من البهائم كضحية إلى ضريح نيكانق جد القبيلة طلباً لوجه الله، وللاستشفاء، يأخذ منه حراس الأضرحة ذبيحته ومن ثم يُؤتى بهذا المريض ليُمَارس عليه بعض الطقوس فيوسَم بالتراب المأخوذ من أديم أرض الضريح في باطن قدميه وكفيه وجبهته وقفاه أي ظهره، ومن ثم يُؤتى بالخرز الأبيض ليُجعَل له حول رجله -مقام الخلخال- يقوم بهذا رجلان أو أربعة رجال أي شفعاً لا وتراً بالضرورة، وقُصد باللون الأبيض لأنه رمز البركة عند قبيلة شلو كما أسلفتُ. وعندما تريد شلو تكريم شخصٍ يؤتى بالخرز الأبيض لزاماً ليوضع له في رجله اليمنى بركة وبراً وسلاماً له على ما تفضل به على القوم من أحسان أو رضاً عنه، ولابد من أن نشير إلى أن من يقوم بهذا إما أصحاب الشأن أي من لهم صفة روحانية مرتبطة بالكجور، أو كبار السن شفعاً لا وتراً وذلك باستدعاء أربعة من أسلاف شلو ابتهالاً، وفي مقدمتهم نيكانق ومن ثم الثلاثة الآخرين، وقد يتكرر ذلك كلما وجد القوم علة وجيهة لتكريم أي شخص ولكن بنفس الطريقة، وفي هذا يتساوى الجنسان ذكراً أو أنثى، إذن كثرة حلقات الخرز الأبيض في الرجل اليمنى تُعد كثرة مرات التكريم على الأفضال أو الرضا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *