النساء في المجال العام والتنافس الجغرافي

إن الصورة الواردة أعلاه للناشطات المحتفِلات وهن يَسِرنَ بخطى واثقة نحو أم درمان تُعطي انطباعًا مضلِّلًا في كثير من الأوجه. فهي تُحاكي بسهولة مفرطة تصوُّر التقدُّم الذي رسمته صحيفة “الصراحة” أو حتى صورة مرشدات الكشافة في العرض العسكري التي ذُكرت في الفصل السابق. وبهذا، فهي تُغفل وعورة المسارات التي سلكتها النساء في خمسينيات القرن العشرين وتفاوتها. فإذا اعتبرنا الجيل الأول من الناشطات روادًا، فإن الخرطوم وأم درمان كانتا بمثابة حدودهنّ القصوى. لم تكن هذه “الحدود” نقطةً مثاليةً على الأفق، بل كانت ملموسة وقريبة فقط في الأرض التي وطأتها أقدامهنّ.
ومع تصاعد زخم حركة الاستقلال، أفرزت التحولات في المشهدين المادي والاجتماعي في السودان فضاءات جديدة مكّنت النساء من المشاركة في النقاشات الوطنية. فعلى المستوى البنيوي، ربطت الطرق والسكك الحديدية وخطوط التلغراف المدن والأقاليم بشكل غير مسبوق، كما أنشئت المدارس وتعاونيات ربات المنازل التي أخرجت النساء من بيوتهنّ وأدخلتهن في حوارات حول أدوارهن المنزلية والمدنية.
في قلب هذه العوالم الاجتماعية والسياسية كانت المدينة.
وكما هو الحال في مراكز حضرية أخرى في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، مثّلت الخرطوم رؤى متناقضة بين التحدّي والفرصة. فبوصفها مكانًا غير منضبط تعجّ بالحشود والمغريات والنشاط الإجرامي، لم تكن المدينة مناسبةً لسيدة تسير دون مرافقة.
ومع ذلك، كانت الخرطوم، بما هي مقرّ الحكومة، محورًا لنشاط النساء السياسي. هذه الفضاءات السياسية والعمرانية كانت الحدود القصوى غير المرسومة لمشاركة النساء السودانيات في الحياة العامة. وبينما واجهن الأحكام المسبقة، والإهانات، والتهديدات الجسدية، شقّت الرائدات طريقهن في هذا الدرب الوعر، مكتشفات جيوبًا صغيرة من الفرص، ومتمدِّدات حيث استطعن، ومنسجِمات مع تضاريس السودان حين لم يكن التغيير ممكنًا.
تناولت الدراسات الأكاديمية نشوء الفضاء الحضري الحديث (رغم تركيزها على المدن الغربية) باعتباره موقعًا للتلاقي والاضطراب والمتعة الذكورية.
يشير رولان بارت إلى الطبيعة غير المستقرة للمدينة بوصفها المكان الذي نواجه فيه “الآخر”، حيث تلتقي فيه “قوى تحتية، وقوى الانقطاع، والقوى الهزلية.” الشخصية المركزية في هذه اللقاءات هو “المستكشف الحضري”: رجل ثري، عاطل، يشعر براحة أكبر في زحام الجماهير منه في عزلته المنزلية.
كان هذا “المستكشف الحضري” يختلط ويتدافع مع العمّال والباعة والبحّارة والعاهرات واللصوص. ومع ذلك، لم تكن حركته ضمن هذا الازدحام اعتباطية. وكما تجادل آن مكلينتوك، فإن :
“المشي كان تعبيرًا عن الترف والسلطة الذكورية الطبقية.” لقد كان يُفترض أن للمستكشف الحضري – تمامًا كما لنظيره الإمبريالي – الحق في عبور الحدود القائمة بحثًا عن الإثارة البصرية، ووعود المتعة الممتزجة بالخطر. في المقابل، لم تتمتّع النساء اللواتي سرن في المدينة بنفس سلطة الحركة.
وتركيز الدراسات على الرجل المستكشف يغفل، أو حتى ينكر، تجربة النساء الفريدة في المدن.
إذا كانت المدينة فضاءً ملموسًا تلتقي فيه القوى المتعارضة وتُنسج فيه العلاقات الاجتماعية، فإن من الطبيعي أن تختلف تجربة المرأة للمدينة – من تلتقي، والمسافات التي تقطعها، وسرعة تنقلها، ووسيلة المواصلات التي تستخدمها – عن تجربة نظرائها من الرجال.
ببساطة، يُحدِّد النوع الاجتماعي كيف يتحرك المرء في المدينة.
فبينما طغى على تجربة الرجال من النخبة عنصر اللعب وعبور الحدود، كانت سلوكيات النساء الحضرية محكومة غالبًا بقواعد اجتماعية-ثقافية صارمة توجه حركتهن. هذه القواعد، غير المكتوبة ولكن المحسوسة بشدة، شكّلت ما يُعرف بـ“الجغرافيا الأخلاقية”، التي تحدد أين وكيف يمكن للفرد أن يتحرك في الفضاء. في السودان، رغم أن التوب الذي يغطي الجسد ساعد النساء والفتيات في التنقل من المنزل إلى المدرسة، فإنه لم يُحررهن من رمزية الحماية والانضباط الاجتماعي. ولكي يُطالبن بالمدينة كفضاء خاص بهن، كان عليهن إعادة رسم الجغرافيا الأخلاقية، وفرض تعريفات جديدة للسلوك المقبول، وللأماكن العامة أو شبه العامة الآمنة (وما يجعلها كذلك).
وفي سبيل ذلك، رسمت النساء السودانيات “جغرافيات متنافسة” عبر المدينة:
خرائط بديلة ذات مسارات وحركات متميزة عن تلك التي يسلكها أزواجهن، وإخوتهن، وأبناؤهن.
كانت الخرطوم مدينة متعددة الجغرافيات. فالمنطقة الإدارية والسياسية في وسط المدينة بُنيت وفق شبكة صارمة من الشوارع المستقيمة والممرات القطرية المنتظمة. ولكن كلما ابتعد المرء عن مركز المدينة، زادت العشوائية. تخففت لوائح البناء، وتقلصت البنية التحتية أو اختفت كليًا.
كذلك كانت مساكن سكان المدينة مقسّمة إلى مناطق منفصلة على أساس العرق، والطبقة، والقرب من السلطة. وُجدت منطقة للأوروبيين ومن “يعيشون وفقًا للمعايير الأوروبية”، ومنطقة ضاحية لـ”النخبة من السكان المحليين”، والمخيمات الأصلية (الديُوم)، التي كانت تبعد مسافة عن المدينة لكنها تبقى في متناولها، مساكن الطبقات العاملة من السكان المحليين.
كانت الديُوم – الأحياء السكنية للطبقة العاملة السودانية – تضم عمال البناء والعمالة اليومية والمهاجرين من الأرياف، وعددًا كبيرًا من العبيد المحررين. أدّت الكثافة السكانية وسوء الصرف الصحي إلى تفشّي أمراض مثل الملاريا والكوليرا والدوسنتاريا. وبعد الحرب العالمية الثانية، نفّذت الحكومة برنامجًا ضخمًا لإعادة توطين سكان الديُوم. هُدمت منازل وأحياء بأكملها لإفساح المجال لمشاريع تجارية ومساكن ذات جودة أفضل.
بُنيت “ديُوم جديدة” جنوبًا، خارج خط السكك الحديدية الذي كان يشكّل الحدود الجنوبية للمدينة. بين عامي 1949 و1953، اضطر نحو ثلاثين ألف سوداني إلى مغادرة منازلهم.
تم بناء الديُوم الجديدة بـ“رتابة موحدة”:
كُتل مستطيلة من الأراضي قُطعت بمساحات مفتوحة وأماكن مخصصة للمدارس، والمحلات، والمراكز الصحية، ومركز للشرطة، وسينما. في هذا الجزء “الأصلي” من الخرطوم، لم يكن الجمال هو الهدف، بل كانت الرتابة وسيلة لـ”تبسيط وفعالية السيطرة”.
غالبًا ما كانت حياة النساء العاملات خارج هذه النظم الصارمة للسيطرة. ففي حين وفّر النمو الحضري فرص عمل عديدة للرجال، انحصر عمل النساء في الاقتصاد غير الرسمي، كخادمات منازل، وبائعات متجولات، وبائعات شاي ومشروبات كحولية، وعاملات بالجنس. مجتمعات، وفّرت هؤلاء النساء “وسائل الراحة المنزلية” لقوة العمل الحضرية الذكورية التي كانت تخدم الإدارة الإمبريالية.
ومن الجدير بالذكر أن الرجال كانوا يتنقلون داخل المدينة وخارجها وفق جداول عمل منتظمة، بينما كانت حركة النساء داخل وخارج الديُوم أقل انتظامًا بكثير. هذا الطابع غير الرسمي في تحركاتهنّ وأعمالهنّ جعل النساء أكثر عرضة للخطر. ففي الماضي القريب، كانت الجارية خاضعة للسلطة الجسدية والجنسية لسيدها وأسرته. أما الآن، ومع وجود رجال عاملين في بيئة حضرية جديدة، باتت سبل كسب رزق النساء – في الزوايا والأسواق – عرضة لنظرات الغرباء وأفعالهم العنيفة. وخارج حدود المنزل، أصبحت سمعة النساء عرضةً للنقد الاجتماعي وأجسادهنّ عُرضةً للخطر الجسدي.
هؤلاء هن “النساء العموميات” بالمعنى الحقيقي للكلمة، أجسادهن المكشوفة في المجال العام موسومة بعناصر الحياة الحضرية القاسية: الغبار، الزحام، التجارة، الشمس الحارقة، ونظرات الرجال المتطفلة. ومع ذلك، فقد كانت النساء الحضريات مصدرًا للخطر تمامًا كما كنّ ضحايا له. ففي الثقافات العربية الإسلامية المحافظة، تُعتبر الأجساد النسائية المتنقلة مصدرًا محتمَلًا لـ“الفتنة”، أي الاضطراب الاجتماعي والأخلاقي. في القرن التاسع عشر، ارتبطت مخاوف الفتنة بشخصيات نسائية هامشية كالعاهرات، والراقصات، والمعالِجات، والقابلات، اللواتي اعتُبرت أعمالهنّ غير لائقة أو مشكوكًا في أخلاقيتها. كانت هذه المهن تُنتج “نساء بلا رجال”، أي نساء يتحركن بحرية دون وصيّ، وتبدو مسؤولياتهنّ العائلية ثانوية.
وفي السودان خلال القرن العشرين، حين بدأت الطالبات والمعلمات والقابلات والناشطات في دخول الفضاءات الحضرية، تحديّن فكرة أن الجسد المتحرّك هو جسد مخرِّب أو فوضوي. تتذكّر فاطمة أحمد إبراهيم أنه في السنوات الأولى للحركة النسائية:
كانت المتسوّلات هنّ النساء الوحيدات اللواتي يتقاسمن الشارع معهن. وغالبًا، حين كانت هي وزميلاتها يقتربن من المارة، كان الرجال يبادرون بالاعتذار لعدم امتلاكهم نقودًا إضافية يتصدّقون بها.
كانت مثل هذه المواقف المهينة شديدة الإيلام في ثقافة تُعدّ فيها شرف المرأة وروابطها الأسرية من أعظم القيم.
لقد خاطرت النساء السودانيات بفقدان مكانتهنّ الاجتماعية مقابل أن يصبحن فاعلات حضريات.
فالرؤية العلنية في الفضاء العام محَت التمايز الاجتماعي والهوية الفردية، واختُزلت الرائدات إلى نساء بلا عائلة، ولا مكانة، ولا مال. وهكذا، فإن دخول الناشطات إلى الخرطوم وأم درمان لم يكن مجرد فعل سياسي، بل مشروعان سوسيولوجيّان وجغرافيّان مترابطان:
الأول هو تأكيد حق النساء في التواجد في الفضاءات العامة.
والثاني هو دخولهنّ باعتبارهنّ فاعلات محترمات على المسرح السياسي.
الجمال، الصواب، والعنف
كانت النساء في السودان – كما في أماكن أخرى – بحاجة إلى أكثر من مجرد القوة الجسدية للوجود في المجال العام. فقد شكّلت الملابس، وسنّ الظهور، و”الصواب السلوكي”، أدوات حيوية في رسم حضور النساء الحضري والسياسي. ولم يكن غريبًا أن معظم عضوات الاتحاد النسائي في خمسينيات القرن العشرين كنّ من الطبقة الوسطى المتعلّمة، واللواتي، رغم ارتباطهنّ ببيئة حضرية متغيرة، حافظن على التزام واضح بالقيم الأخلاقية المجتمعية.
فهنّ لم يرفضن الأعراف الاجتماعية، بل عمِلن ضمنها وأعدن تعريفها.
وفي قلب هذه الإستراتيجية كانت مسألة الاحترامية (respectability)، وهي مفهوم اجتماعي وسياسي برز في مجتمعات ما بعد العبودية، حيث سعت النساء الملوّنات إلى تثبيت أنفسهن كمواطنات فاعلات عبر الالتزام بمعايير السلوك المقبولة ثقافيًا.
في السودان، اتخذت هذه الاحترامية شكل التزام صارم بالسلوك القويم، وارتداء التوب السوداني التقليدي، والتأكيد على الهوية “المحتشمة” والمتجذرة في الثقافة الوطنية.
لم يكن التوب مجرد زيّ، بل كان فعلًا اجتماعيًا وسياسيًا أيضًا. فقد منح النساء حماية معنوية، وغطاءً للتحرك، ومظهرًا من مظاهر الجدارة السياسية.
وبصفته زيًّا تقليديًا محليًا، شكّل التوب وسيلة لمعارضة الهيمنة الثقافية الغربية التي مثّلتها الأنماط الأوروبية في الملبس والسلوك.
ومع ذلك، فإن دلالة التوب لم تكن محايدة. إذ ارتبط لونه، وطريقة ارتدائه، ومادته، بدلالات طبقية وأخلاقية. فالتوب الأبيض، على سبيل المثال، كان يُنظر إليه على أنه زيّ “المرأة المحترمة”، في حين ارتبطت الألوان الصارخة أو الأنماط الملفتة بالمرأة “الخارجة عن الأعراف”.
ومع تصاعد نضال النساء في المجال العام، كانت معركتهنّ لا تتعلق فقط بالوجود الجسدي في الفضاء السياسي، بل أيضًا بتأطير هذا الوجود ضمن خطاب “الجمال القومي” و”الصواب السلوكي”. وقد شهدت تلك الحقبة محاولات متكررة من الصحف، والقادة السياسيين، وحتى بعض الناشطات، لصياغة صورة مثالية للمرأة السودانية: جميلة، محتشمة، أنيقة، وطنية، ومتواضعة في آنٍ واحد.
لكن هذه الصورة المثالية كانت سيفًا ذا حدّين. فبينما منحت النساء أدوات للقبول المجتمعي، فرضت أيضًا معايير صارمة تستبعد من لا تنطبق عليهنّ، لا سيما النساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي، أو غير المتعلمات، أو اللائي يُنظر إليهنّ باعتبارهنّ خارجين عن السلوك القويم.
ولم يكن العنف – اللفظي والجسدي – غائبًا عن هذه الديناميات. إذ كانت النساء الناشطات، حتى وهنّ ملتزمات بزيّ التوب، يتعرضن للمضايقات في الشوارع، والتشكيك في دوافعهنّ، بل وحتى للهجوم الجسدي أحيانًا. كانت أجسادهنّ مسرحًا لصراع أوسع حول تعريف الوطنية، والأنوثة، والمواطنة. وفي ظل هذه البيئة المتقلبة، كانت كل خطوة تخطوها النساء في المجال العام بمثابة مغامرة سياسية، محفوفة بالتحدي ومشحونة بالمعنى.
كان على المرأة النشطة أن تتحلى بالذكاء الأخلاقي والجسدي:
أن تعرف متى تُظهر نفسها، ومتى تخفيها؛ أن تقرأ المدينة مثل خريطة تُظهر المخاطر والفرص في آنٍ معًا.
لقد استخدمن الملابس، والنظرات، والمشي، والصمت، واللغة، كلها كأدوات للمناورة والتفاوض. لم يكن وجودهنّ في المدينة مجرّد انتقال مادي من حيّ إلى آخر، بل كان رحلة عبور بين هويات وسياقات متصارعة.
بهذا المعنى، لم تكن الجغرافيا الحضرية في السودان الاستعماري مجرد إطار مادّي، بل كانت فضاءً متغيّرًا تُصاغ فيه العلاقات الاجتماعية، وتُعاد فيه كتابة القواعد.
وفي مركز هذه التحولات كانت النساء: يقاومن، يتأقلمن، يُعيدن التشكيل، ويتركن آثارًا دائمة على وجه المدينة.
دخلت أصوات وآراء النساء إلى الفضاء العام جنبًا إلى جنب مع أجسادهن المتأنقة بعناية. في الماضي، كانت عزلة النساء السودانيات وفصلهن تعني صمتهن. وكما تجادل بيث بارون: “لم يكن من المتوقع أن يكون للأشخاص الذين لا حضور لهم في المجال العام صوتٌ عام.” ولكن كان الصوت العام أمرًا حاسمًا إذا ما أرادت النساء تحقيق تقدم اجتماعي وسياسي حقيقي. ومع دخول الأجساد إلى المدينة، لجأت الرائدات إلى الصحافة كوسيلة أخرى لدخول السياسة الوطنية والنقاشات العامة. لقد كُتب الكثير عن الطرق التي تبني بها الصحافة الشعبية مشاعر المجتمع وتوطّد القيم والأهداف المشتركة. وكما عبّر أحد الصحفيين السودانيين في نداء عام 1919 لصحيفة يديرها السودانيون تعالج القضايا المحلية وتروّج للمؤلفين المحليين: “أمة بلا صحيفة كقلب بلا لسان.”
وبنفس الشعور، استخدم النشطاء الصحافة النسائية الناشئة للتعبير عن قيم وأهداف حركة النساء. أُسست أول مجلة نسائية، “بنت الوادي”، عام 1947. وُزعت المجلة على نطاق واسع في المدارس، وكانت تُحرر في الغالب من قبل رجال، مع مساهمة النساء ببعض المقالات فقط.
وعلى الرغم من أن المجلة لم تدم طويلاً، إلا أنها قدمت نموذجًا لمساحة فكرية يمكن فيها مناقشة قضايا النساء علنًا. في إنشاء صحافة نسائية قابلة للحياة، كان السودانيون متأخرين بنحو نصف قرن عن نساء أخريات في الشرق الأوسط. ففي مصر، ظهرت أول مجلة نسائية عام 1892، مع ظهور مجلات جديدة بمعدل واحدة في السنة حتى الحرب العالمية الأولى.
كانت معدلات الأمية المنخفضة سببًا جزئيًا في البداية البطيئة للسودان، ولكن أيضًا ثقافة العزلة الصارمة في البلاد. حتى في الأربعينيات، كان المحافظون المتشددون يعتقدون أن صوت المرأة يعادل كشف صدرها. وعلى الرغم من أن المقالات التي تكتبها النساء لم تكن منطوقة، إلا أنها كانت تُعتبر امتدادًا لصوتهن. كانت النساء اللاتي يجرؤن على الكتابة غالبًا ما يخترن أسماء مستعارة لتجنب الفضيحة.
على سبيل المثال، كتبت نفيسة أحمد تحت الاسم المستعار “بنت النور”. وهكذا، كانت الأعراف المماثلة تحكم الأجساد والأصوات. حتى في الفضاء الخطابي غير الملموس، كانت حضور المرأة عرضة للخطر ومزعزعًا للاستقرار.
في عام 1954، أسست فاطمة أحمد إبراهيم مجلة نسائية شهرية، “صوت المرأة”—عنوان فرعي بشكل خاص نظرًا للإيحاء بالمحظور المطبوع على غلافها. كان هناك توب شائع يحمل نفس الاسم. وكلاهما تحدى الصمت المتوقع من النساء السودانيات. بمتوسط خمسين صفحة في العدد، تناولت “صوت المرأة” مجموعة رائعة من المواضيع الاجتماعية والوطنية والدولية.
احتُفل بتقدم النساء في مجالات التعليم والطب. أدانت الافتتاحيات ختان الإناث وغيره من التقاليد التي ساهمت في “تخلف” النساء. أرسل القراء رسائل يطلبون فيها النصيحة أو يقدمون اقتراحات وتصحيحات. وظهر بها عمود يساري منتظم، “نساء العالم”، الذي تناول مقالات قصيرة عن النساء في روسيا والصين أو الانتفاضات الشعبية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، جنبًا إلى جنب مع مقالات عن تربية الأطفال والطهي. مستوحاة من ذلك، أسست ناشطات أخريات مجلات ثقافية وسياسية خاصة بهن.
لكن كانت “صوت المرأة” التي احتلت مكانة الفخر كلسان حال النساء السودانيات. تتراوح تقديرات التوزيع من 12,000 إلى 17,000 قارئ في ذروة شعبيتها. في عام 1960، أشار مراقب بريطاني معارض بشدة للاتحاد النسائي السوداني إلى عدد أقل، لكنه لم يكن أقل اقتناعًا بمدى وصول المجلة: “التوزيع الرسمي لـ ‘صوت المرأة’ هو تسعة آلاف”، كتبت، “لكن عدد القراء، والنساء عمومًا، الذين تصل إليهم المجلة يجب أن يكون ثلاثة أضعاف هذا العدد.”
كان هذا العدد الكبير من القراء يضع “صوت المرأة” على قدم المساواة مع واحدة من أكثر المجلات السودانية شعبية، “الصبيان”، التي كان يقرأها الشباب والكبار على حد سواء وكانت مدعومة من الحكومة وتُباع في المدارس. بالمقابل، كانت أكبر الصحف اليومية في السودان تبلغ توزيعاتها حوالي أربعة آلاف لكل منها.
أهم من الأرقام كان الإحساس بالمجتمع الذي عززته الصحافة النسائية.
في عام 1956، قُدرت نسبة الأمية بين النساء بـ 4 في المئة، بينما بلغت بين الرجال 23 في المئة.
مع هذه المعدلات المنخفضة، قد يتساءل المرء لماذا وجه النشطاء طاقتهم ووقتهم ومواردهم المالية نحو الصحافة على الإطلاق. من الواضح أن “صوت المرأة” لم تستطع الادعاء بأنها تخاطب غالبية السكان. ولكن بالنسبة لأولئك النساء اللواتي وصلت إليهن، ربطتهن المجلة في زمالة بين الكاتبات والقراء.
الصحافة مؤسسة غريبة
فهي تعمل كإذاعة عامة، ولكن يمكن أيضًا استهلاكها في راحة وخصوصية المنزل. ربطت حركة الكلمة المطبوعة بين المساحات الخاصة والعامة النساء بالنقاشات العامة وكذلك بجماعة متزايدة من القراء الآخرين. في السودان، كما في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، تصور محررو الصحافة النسائية أنفسهم على أنهم منخرطون في أعمال حوار، وليس مونولوج.
من خلال أعمال القراءة والكتابة المتبادلة، شكل المحررون والمشتركون مجتمعًا متخيلًا داعمًا من خلاله حصلت النساء على أول طعم لصوت عام. كان الأمل، بالطبع، أن يصبح القراء النشطون يومًا ما نشطاء. عملت الأقلام والأجساد معًا لتعريف الحضور السياسي. لكن الأسماء المستعارة والسلوكيات المتواضعة لم تكن دائمًا تضمن الحماية الكاملة.
بينما تحدث النشطاء عن “نار جديدة” ودعمت الافتتاحيات الأخوة العالمية، كانت النساء في الأماكن العامة لا زلن معرضات لسوء التعريف والأذى. بعد عشرين عامًا من تقديم مابل وولف لأول مرة التماسًا للحصول على تصاريح سفر من الدرجة الثانية للمولدات العاملات في خدمة التمريض، استمر القلق بشأن اللياقة أثناء السفر. في عام 1953، أرسل اتحاد المعلمات قائمة من المطالب إلى وزارة التعليم تطلب فيها معاشًا تقاعديًا، وتخفيضًا في أعباء التدريس، وزيادة في تكلفة المعيشة، والمساواة في الأجور مع المعلمين الذكور.
كان هناك قلقًا بشأن سلامة وسمعة أعضائه، طلب الاتحاد أيضًا أن يُسمح للمرافقين للمعلمات الشابات بالسفر في نفس درجة العربة مع من يرافقونهن، وأن تُمنح المفتشات المدرسيات امتيازات الدرجة الأولى في السفر بالقطار والطائرة. ظل التمييز بين الأجساد المسموح بها في الأماكن العامة أمرًا حاسمًا في الخمسينيات كما كان قبل جيل. كما في السابق، كان الطلب على درجة سفر أفضل يهدف إلى الاعتراف بالمكانة المهنية للنساء وحماية الأجساد الضعيفة.
كانت تصاريح السفر، والأوشحة الزرقاء للمولدات، والطوب المستعار للفتيات المدرسيات، والحركات المقاسة كلها ترسل رسائل عن الاستقرار. لم يكن من المفترض أن يخطئ أحد في التعرف على هؤلاء النساء باعتبارهن من أخواتهن من الطبقة الدنيا في الأحياء الشعبية. ومع ذلك، غالبًا ما كان الاحترام العام لهن يتخلف كثيرًا عن المسافات التي كانت النساء يقطعنها.
بعد ثلاثين عامًا من الاستقلال، وبينما كانت حكومة محافظة تقمع المتظاهرين السياسيين، استمرت النساء الناشطات في تحدي التصنيف السهل. في عام 1983، بعد وقت قصير من فرض الشريعة الإسلامية في السودان، اعتقل نظام الرئيس جعفر نميري أعضاء رئيسيين من الإخوان الجمهوريين، الذين جادلوا بأن القانون الإسلامي لا ينبغي أن يُطبق في بلد يشكل فيه غير المسلمين 30 في المئة من السكان.
كما تم اعتقال أربع أخوات جمهوريات لتحدثهن علنًا.
كانت هذه واحدة من أولى الحالات التي احتجزت فيها الدولة سجناء سياسيين من النساء، وبرز السؤال على الفور حول مكان احتجازهن. بينما تم احتجاز الإخوان الجمهوريين في جناح سياسي خاص في السجن المركزي، وُضعت الأخوات في زنازين مع بغايا ونساء فقيرات متهمات بتخمير الكحول بشكل غير قانوني. لا بد أن الاتصال الوثيق مع نساء مدانات بسلوك غير أخلاقي كان صادمًا لهم ولهن وهن من كرسوا حياتهم لنشر نسخة حديثة من الإسلام.
ومع ذلك، استغلت الأخوات الجمهوريات الوضع بأفضل ما يمكن وقضين عامين في السجن يُعلمن زميلاتهن القراءة ويقرأن لهن الشعر والإنشاد الروحي.
إنها قصة ملهمة. لكن عدم وجود زنازين مخصصة للسجينات السياسيات يدل على استمرار الصمم تجاه الأصوات السياسية للنساء. غياب المساحة المخططة للمعارضات الإناث يفترض غيابًا مماثلًا للعمل من قبل الأجساد الحقيقية. فتح الموقف العام الغامض للنساء الباب أمام العنف.
فترة الخمسينيات
طوال الخمسينيات، استخدم الأئمة في أكبر مساجد الخرطوم خطب الجمعة لاتهام النساء الناشطات بانتهاك تعاليم الإسلام. في الشوارع، كان الرجال يلقون السباب والإهانات على النساء المارات. تتذكر حاجة كاشف مناسبة ضرب فيها مجموعة من الرجال نساء ناشطات بعصا أثناء تجمعهن لاجتماع عام. تصاعدت المضايقات والضغوط الاجتماعية لدرجة أن فرع الخرطوم للاتحاد النسائي السوداني تفكك وأعاد تشكيل نفسه كنادٍ اجتماعي بحت.
اترك تعليقاً