صوت المرأة
استعادة شوارع المدينة
في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 1951، أرسلت فاطمة أحمد إبراهيم وزميلاتها رسالةً إلى مُحرر صحيفة محلية ينتقدن فيها قصورَ تعليم البنات. عَرضن في الرسالة الفوضى التنظيمية التي تعيشها مدرسة أمدرمان الثانوية للبنات، وموقفَ بعض المعلمات المتحيز وغيابَهنّ المتكرر عن العمل.
نُشرت الرسالة في صحيفتي النسختين العربية والإنجليزية، وأثارت ردود فعل عامة واسعة. استدعيت فاطمة أحمد إلى مكتب المديرة سيلفيا كلارك، حيث أُتيح لها الانسحابُ من الرسالة وكشفُ أسماء الطالبات المسؤولات(خيرتها أن تشي بزميلاتها)، فأجابت بحزم أنها شاركت لوحدها في كتابتها.
عندئذٍ وبختها كلارك قائلةً: «لقد خالفتِ تقاليد عائلتكِ ودينكِ وبلدكِ».
في اليوم التالي، دخلت عشر من تلميذات الصف الخامس في إضراب، وانضمت إليهنّ البنات في الصفين الثالث والرابع. كانَّت فتيات المدارس في السودان قد شاركن إضراباتٍ تضامنيةً مع مدارس الصبيان سابقًا، لكن هذه المرة كانت المبادرة بأيديهنّ، وشروطهِنّ الخاصّة.
انتهى إضراب المدرسة الثانوية في غضون أسابيع قليلة، لكنّ شيئًا قويًّا قد انطلق.

فاطمة أحمد إبراهيم (1932–2017)
تأسست مدرسة أمدرمان الثانوية للبنات عام 1945، وكانت القمّةَ في التسلسل الهرمي للتعليم الثانوي للبنات في السودان، ولا تقبل سوى ألمع الطالبات. وبتأكيد مكانتها المرموقة، تجاوز منهاجها «المهارات الثلاثة» (القراءة والكتابة والحساب) والتثقيف الصحي ليحاكي المنهج الإنجليزي. فما من سبيل لفهم طموحات المدرسة إلا بالاطلاع على مقرراتها في التاريخ العالمي على مدى أربع سنوات: ففي السنة الأولى يدرسن تاريخ بلاد ما بين النهرين حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية، وفي الثانية يدرسن العالم الإسلامي من حياة النبي محمد حتى سقوط الخلافة العباسية. أما السنة الثالثة فكانت عن «الثورات» – من النهضة والإصلاح البروتستانتي حتى الثورة الفرنسية وبزوغ عصر الصناعة – وفي السنة الرابعة تتناول العلاقات الدولية في القرن العشرين، بما في ذلك الحربان العالميتان وتراجع الدولة العثمانية وقيام القومية العربية.
ولم يكن منهج اللغة الإنجليزية أقلّ اتساعًا، فقد شمل دراسة روايات مثل جين آير ونورثانجر آبي وتاجر البندقية لكن المعلمة ليليان باسمور اعترفت بأن أعمال شكسبير وبرونتي «بعيدة جدًّا عن خبرات وخلفيات فتيات السودان، فلا تثير لديهنّ اهتمامًا بل تبدو لهنّ غير مفهومة»، ففضلن قصص إثارة أجاثا كريستي. جديرٌ بالذِكر أن تخصص «العلوم المنزلية» غاب تمامًا عن المنهج.
على الورق، بدا المنهج قويًّا، لكن الواقع كان مختلفًا: فضعف القيادة ونقص الكادر تأججت المشاكل. فعند اندلاع الإضراب لم يكن للمدرسة مديرة دائمة، إذ توالت أربعة نساء على منصب «مراقبة تعليم البنات» أو مديرات مؤقتات أصدِرن أوامر متضاربة، فأصبحت الطالبات في حيرةٍ تامة. وقد عمّ النقصُ أربعَ حصص تدريسية شاغرة، ما دفع إلى إلغاء حصص أساسية وإخلال جدول الدوام. وبعد سنوات قليلة، كتبَت باسمور تقاريرٍ قاتمةً عن تكرار انقطاع المواد، حتى إن التاريخ غاب عن المنهج ثلاث سنوات متتالية (1950–1953)، والعلم العام لم يُدرَّس للصف الأول بين آب (أغسطس) 1954 وكانون الثاني (يناير) 1955 “لانعدام المعلمين المناسبين”.
لم تكن تلك الصعوبات سرًّا. فقد لاحظت مديرة مدرسة أمدرمان الإعدادية، كاثلين وود، قبل الإضراب بيومين أن :
“غيوم الحرب كانت تتجمع منذ وقت طويل”، ووصفت أوضاع الثانوية بأنها “بائسة لدرجة مروعة، وأخشى ألا تستطيع كلارك جمعَ شتاتها”.
وبعد نشر احتجاج الطالبات، اضطرت وود للاعتراف بأن “ما تقوله الفتيات صحيح إلى حدٍّ كبير!”
في سرد قصة الإضراب وتلاَته، برزت سيلفيا كلارك بوصفها الشريرة الحكومية. فقد خدمت في السودان منذ 1938، وفي 1949 خلفت إينا بيزلي في منصب مراقبة تعليم البنات. بعد فضيحة الرسالة والإضراب، أصدرت كلارك نظامًا شاملًا للعقوبات: زيارة واحدة إلى البيت كل أسبوعين، وزيارات المدرسة مقصورة على الخميس والجمعة من الرابعة إلى الخامسة والنصف مساءً، وكل الرسائل تمرّ عبر مكتب المديرة التي تحتفظ بحق فتحِها وقراءةِ محتواها، وأي اضطرابٍ يعرِّض الطالبات للفصل من دون إنذار، وأي هجرةٍ من دون إذنٍ تُحرم صاحبتَها من العودة.
ثم ألحّت كلارك «منتقمةً» بإجبار المضربات على تقبيل يدها عند عودتهنّ، وبمنعهنّ من تولي وظائف تطبيقية في المدارس الابتدائية والإعدادية رغم وجود شواغر.
عندما اقتصر أثر احتجاج الطالبات على المشابهة العسكرية، قارنته الصحف المحلية بـ«نظامٍ عسكري». وبعد عقود من ذلك، كتبت فاطمة أحمد في مقدمة تاريخها لحركة النساء السودانيات:
«كان الإمبريالية حاضرة في سلوك المديرة البريطانية مس كلارك وتنظيمات المدرسة».
حمّلت طالبات أمدرمان كلاركَ ومؤسساتها العبثية تردّيَ تعليمهنّ. ورغم ادعاء المدرسة مكانتها، غدا واقعها دليلًا على سخافة التزام الدولة بتعليم رفيع للبنات. وفي رواياتهنّ، لكنَّهن أشرن إلى شخصٍ واحدٍ فقط من الجانب البريطاني دعَمهنّ، وهي الآنسة مرييل ريد، التي وصفَتها الصحف بأنها الوحيدة الحاصلة على شهادة تدريس في المرحلة الثانوية. وزُعم أن دعمَها للطالبات أدّى إلى طردها إلى إنجلترا.
لكن الوثائق الحكومية لسنوات 1948–1950 تُظهر أن (ريد) عملت مديرةً في مدرسة أمدرمان الإعدادية، ثم أُعيدت لفترة قصيرةٍ إلى مدرسة في عطبرة قبيل استقالتها للزواج، فلا دليل على طرد حكومي. قصّة ريد المتداولة، إذن، أكثر تشويقًا من كونها أعادت رهنها لمصلحة الدولة الإمبراطورية. أفضى الإضراب إلى تأسيس الحركة النسائية المنظمة.
ففي 17 كانون الثاني (يناير) 1952، دعت عزيزة مكي عثمان أزرق تسع صديقات إلى بيت والدها لبحث فكرة إنشاء اتحاد نسائي. واعتمدت المجموعة موعدًا لعقد اجتماع عام في نهاية الشهر. وفي 31 كانون الثاني (يناير) اجتمع أكثر من خمسمائة امرأة وفتاة في المدرسة الإعدادية للبنات بأمدرمان، وناقشن وضع المرأة في السودان، وانتخبن لجنة مؤقتة. وفي 24 نيسان (أبريل)، عُقد المؤتمرُ العام الأول لاتحاد نساء السودان، وانتُخبت هيئةٌ تنفيذيةٌ مكوّنةٌ من خمسة عشر عضوًا، وتوافرت دستورٌ للاتحاد. وُلد بذلك، بدعمٍ شعبي وإعلاميٍّ ملحوظ، أعرقُ وأشهرُ منظمة نسائية سودانية.

عزيزة مكي عثمان أزرق 1930-2012م
نارٌ جديدة
تزامنت إضرابات وتنظيم النساء السودانيات مع نشاط إخوانهنّ وأزواجهنّ الوطني المتصاعد. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، شكّل خريجو الجامعات «المؤتمر العام للخريجين» كهيئة نقابية، ثم في 1942 طالبوا بحق تقرير المصير.
على أثر ذلك، أسس إسماعيل الأزهري عام 1943 حزبَ الأُشِقَّاء، داعيًا لاتحاد وادي النيل، وانضم إليه السيد علي الميرغني قائِد الطريقة الختمية. ومن جهةٍ أخرى، كوّن أنصار المهدي «حزب الأمة» بقيادة السيد عبد الرحمن المهدي مدافعًا عن التعاون مع بريطانيا تمهيدًا لاستقلالٍ تدريجي.
على الرغم من تعدّد الأحزاب في الأربعينيات والخمسينيات، ظلّ الخلاف الأكبر حول مستقبل العلاقة مع القوى الإمبراطورية: بريطانيا ومصر. وفي 1947، رفعت مصر القضية أمام مجلس الأمن، لكنها فشلت. فبادرت بريطانيا بإنشاء «المجلس التشريعي» المنتخب، لكن بنظام انتخابي بعيدٍ عن التمثيل الحقيقي. ورغم قول بعض الوطنيين إنه أول خطوة نحو حكمٍ ذاتي، قاطعه آخرون بدعوى انتقاص دور مصر.
انتُخبت عشرة مقاعد مباشرةً في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 من أصل خمسة وسبعين، والباقي عيّن أو انتخب بطرق غير مباشرة. وسادت الفوضى والإخفاقات البرلمانية حتى بدا الأعضاء عاجزين عن إصدار أي تشريع. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1950 صرحت المحققة جيرالدين كولوِك من الانتظار: «نحن في فترة انتقالية مقيتة… والقديمة تتعفّن على أمل ما سيأتي».
في تشرين الأول (أكتوبر) 1951، ألغت مصر معاهدة 1899 ووحدت المملكة المتحدة والإدارة المصرية بالقانون فوصفته بريطانيا بـ«التدخل غير المقبول». ثم أسقطت ثورة الضباط الأحرار ملك مصر وفتحت المجال لمفاوضات جديد… اتفاقية 1953 التي أقرّت فترة انتقالية ثلاثية السنوات، تُختتم باستفتاء تقرير المصير.
على مدى تلك السنوات بدأت مرحلة «السودنة» ، حلّ الرجال السودانيون محل الإداريين البريطانيين، لكن النساء استُبعدْن عمليًّا من هذه الترقيات. فلم تُعدّ أيٍّ منهن جاهزةً لشغل مناصب قيادية في التعليم أو الصحة، فبقيت تلك المناصب في يد الإناث البريطانيات حتى إحالتِهن للتقاعد، وحلّ الرجال مكانَهن.
ومع تصاعد الاضطرابات التنظيمية والإضرابات القطاعية، أسّست نساء السودان منظماتٍ عديدة:
رابطة الفتيات المثقَّفات (1947)
وأخوات الجمهورية (فرع نسائي لحزب محمود محمد طه)
واتحاد نساء السودان (1952)
وجمعية يقظة المرأة (التي نظمت مسيرةً نسائيةً من الخرطوم إلى أمدرمان بعد اتفاقية الحكم الذاتي 1953)، وغيرها.
لم ترقَ بعضُهم للمطالب السياسية الشاملة (فانشقت جمعية الثقافة النسائية إلى جمعية «إحياء الثقافة النسائية» المحافظة)، فيما استُبعدت أخريات عن العمل السياسي المباشر، لكنهن أجدن نشر برامج محو الأميّة ومناهضة ختان الإناث.
رغم أن أهداف بعض المجموعات المبكرة كانت غامضة أو توفيقية، فقد رسّخت الحركةُ النسائية معانٍ رمزية قويةً للتقدم ومواطَنةٍ متكاملة. وظلتْ كلمة (الرائدات) – التي يطلقها السودانيون اليوم على تلك الجيل الأول – تعبّر عن الشجاعة والطليعية والمسؤولية الجماعية، إذ اجتمعت تجارب التعليم الإمبراطوري والوعي الوطني لتشحذ خطاهن نحو ساحة السياسة والمجتمع المدني.
اترك تعليقاً