قراءة حول فيلم أنا الكابتن (Io capitano -2024) – الحلم الأوروبي الزائف
صوت ينادي من المجهول: “ما الذي تنتظره…؟!” ألا ترى القوارب تشق عُباب البحر تجري سكرانة تروض وحشية الماء آتية من مدن الأحلام، … إما أن نرحل من هنا أو لا نكون أبداً!
يبدأ الفيلم بتتبع اثنين من المهاجرين السنغاليين يحلمان بالفرار إلى أرض الاتحاد الأوروبي الأسطورية كلاجئين، حيث يتوقعان تحقيق شهرة واسعة وجمع ثروة كنجوم موسيقى، أسوةً بمن يشاهدونهم على “تيك توك”. لقد أمضيا سنوات في كتابة الأغاني والعمل سراً في مواقع البناء، متظاهرين بالذهاب إلى تدريبات كرة القدم، ليكدّسا مدخرات نقدية تساعدهما في رحلتهما المحفوفة بالمخاطر عبر إفريقيا وصولًا إلى إيطاليا. الشابان، سيديو (سيديو سار) وموسى (مصطفى فال)، هما بريئان وجدا نفسيهما في مأزق يفوق قدرتهما منذ اللحظة التي غادرا فيها منزلهما في داكار، ليقعا ضحية لكل من فساد البشر وقسوة الطبيعة اللامبالية. ورغم أن نيتهما المعلنة من الهجرة هي مساعدة عائلتيهما عبر كسب المال في أوروبا، إلا أن هناك أيضًا عنصرًا من اندفاع الشباب الطائش؛ ففي مشهد مُبكر يشبه فنون الزار التقليدي، وهي اللحظة التي ينغمس فيها شخص مع الموسيقى، يفقد نفسه وتتلاشى، في هذا المشهد يقرع فيه سيدو الطبول لأداء رقصة صوفية ومبهجة من قبل والدته وشقيقاته ينذر بسلسلة من اللحظات المشحونة بالمشاعر المماثلة، إلى جانب العديد من التحولات إلى الخيال الشبيه بالحكايات الخرافية والواقعية السحرية.
فوالدة سيديو تريده أن يبقى في السنغال خوفًا على سلامته إن غادر. “أفضّل أن يبقى ابني هنا على المال”، تقول. لكنه لا يُصغي.

إن أكثر المزالق شيوعًا في الأعمال الدرامية الاجتماعية مثل هذا هو ما يُعرف بـ “إباحية البؤس” (Misery Porn)، حيث يغرق الفيلم في معاناة شخصياته، وهم عادة شخصيات ملونة، من أجل إمتاع جمهور يُفترض أنه أبيض. يلامس “أنا القبطان” هذا الحد في بعض الأحيان بلقطات مقرّبة مطولة لوجوه سيديو وموسى ورفاقهما المهاجرين وهم في ضيق شديد. يصبح الحجم الهائل لهذه اللقطات مملًا بعد فترة. لكن القصة لا تتوقف عند هذا الحد.
لن يختار أحد أن يضع أطفاله في قارب إلا إذا كان البحر أكثر أماناً من اليابسة، عليك أن تفهم، أن لا أحد يضع أظفاراً على حنجرة ابنه، أو يحرق بطاقات هويته، ويقضي أياماً وليالي في أحشاء شاحنة، إلا عندما تصرخ الأرض، “اخرجوا، غادروا الآن، أو سأخنقكم.”
إنه فيلم يفيض بالعاطفة والزخم الملحمي، رغم أنني لم أكن مقتنعاً تماماً بمشاهد الهذيان الخيالية؛ عن السيدة التي تطير معه وهي التي كانت قد ماتت في الصحراء، أو عن الملائكة التي تأتي وتحمل تحياته وسلامه لأمه، لكن الواقع يظل هو الأرض الأكثر صلابة. وبغض النظر عن أي شيء آخر، فإن “أنا القبطان” يكشف حقائق صادمة حول القوارب المستخدمة؛ إذ “يقودها” اسمياً أحد الركاب، روح بائسة، وبسبب مفارقة مقيتة من القدر، قد تكون هي الأقل كفاءة والأضعف قدرة بين الجميع.
كما يُظهر الفيلم مفارقة مروعة: فاللاجئون هم جزء من “اقتصاد خديعة سام”. السماسرة يدركون جيداً أن هؤلاء البشر سيموتون حتماً جماعاتٍ في الصحراء أو المحيط، وأنهم لن يكونوا في وضع يسمح لهم بطلب استرداد أموالهم أو تحذير أي شخص آخر.
إلى جانب كل الخوف والمعاناة، يلامس “أنا القبطان” أيضًا الواقعية السحرية بطريقة تُذكّر بعمل درامي آخر يوثق تجربة المهاجرين، كما أن تصويره السينمائي الفني والمُتعمّد يمتلك بريقًا يُشبه بريق مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، مما يُبعد الفيلم عن أبطاله بدلاً من الارتقاء برحلتهم إلى أبعاد ملحمية.
“أنا آسف أيها الغواصون والباحثون عن المفقودين، فأنا لا أعرف اسم البحر الذي غرقت فيه… شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي.”
وهذا ما يجعل الأمر شائكًا، لأن الغرض الأساسي من فيلم مثل “أنا القبطان” هو إضفاء الطابع الإنساني على شخصياته لخدمة رواية قصص نادرًا ما تُروى في وسائل الإعلام. إن وضع أسماء ووجوه لإحصائيات الهجرة أمر بالغ الأهمية، و”أنا القبطان” ينجح في ذلك، في سرد قصة أولئك الناس الذين ليسوا تماماً “سادة مصيرهم، أو قادة أرواحهم، إنهم كائنات تجرفها تيارات القوة الغاشمة وانعدام المساواة، لكن غاروني يُبيّن لنا أن إنسانيتهم وتعاطفهم لا يزالان يطفوان على السطح.
كما أنه فيلم إيطالي حواراته في الغالب بلغة الولوف والفرنسية، مما يعكس تنوع أوروبا الحديثة. ولكن تبقى هناك نقطة مزعجة وغير مريحة: لمن صُنع هذا الفيلم حقًا—هل للمهاجرين الأفارقة الذين يحتاجون إلى من يدافع عنهم، أم للبيروقراطيين الباحثين عن مجد الأوسكار؟ أم لجمهور الأوربيون البيض الذين تحركهم عقدة الذنب، يبدو أن الإجابة هي مزيج من كل هذا.


اترك تعليقاً