للكاتب: عثمان علي نور
الساعة الثانية صَباحًا .. لَيالي باريس الباردة، الريّاح فِي الخارج تَعوي كذئاب جائعة، في غُرفة مقيتة أشبه ما تَكون بزنزانة، أو قبر لَملك فِرعوني مِن الأسرة الثالثة، فَي هَرم بأقصى جنوب مصر، هُنا الطابق الثالث لَمبنى عَريق، أشبه بقصر تويلري، أظنه كان يوماً ما لأحد النُبلاء، أو لمارشلات مِن الحِقبة السَابقة. الجَسم مُنهك بعد يوم طَويل ومضني، واَبتسامات بَلهاء لأناس لا اكْرههم، ولا احمل لهم أي مشَاعر جيدة ، أشبه ما أكون بينهم كمن يعاني بمتلازمة اسبرجر. للغُرفة رائِحة مقيتة، كَجبن هُولندي مُتعفن، أو مَدبغة جلُود خَنازير، فِي أقصى شَمال نيُوزلاند، حِيث السُكان المتعجرفين، والمُستعلين، بنقائهم العِرقي، وتاريخهم الدَموي. الْجرذان أكثر ما يُزعجني، تذكُرني رائحة السَمك برِيف مَدينة نابُولي، فِي صيف قَائظ، ونحنُ على سَفينة كئيبة، لأحد القُبرصيين الجَشعين. الغُرفة نتقاسمها ثَلاثة أشخاص، تُركي مِن أصول كُردية، يتَكلم اللغة السُورانية بِطلاقة، يُدخِن بشَراهة، مَهووس بِكتب التاَريخ، أعلى أريكته في الجِدار، وأسفل النافذة الُوحيدة، لُوحة لِقلعة مِن قِلاع اَربيل الضَخمة، كُل يُوم يَضيف إلى تَفاصيلها بَعض الَشيء، يبالغ فِي استخدام الألوان، أظن ذَلك، رَغم أنني لم أكن متَخصص فِي الرَسم، الشيء الوَحيد الذي رَسمته كَان صورة لِمركُب غَارق فِي عَرض البَحر المَتوسط، حِين طلب مني أن اَصف ما حَدث. شَباب أجسامهم نَحيلة، ذو بِشرة سمراء كُخبز مَحروق، الْموت قَد غَيب بعض ملامحهم، وثمة تَفاصيل حَاضرة، نِساء أربعينيات مُمتلئات، يحْضُن صِغارهن بِحميمية، ودفء. سُحقًا لِلموت حتى الصِغار يَنتزعهم مِن أثداء الأمهات. لَا اَدري لِما حِين تُخرج المرأة ثَديها لِترضع صَغيرها لا تُثير شَبق الرِجال، رُبما الطفل الّذي بِداخلنا لَم يُكبر بعد، أو المشهد يُذكِرنا بالأمهات الطّيبات. فَتيات نضرات، تشع عيونهن جمالًا أخاذًا لَا استَطيع وصفه. كما يحدث للغرقى دوماً لم يكن هناك دماء، سوى بعض البقع، والكدمات التي تحولت إلى لون أخضر وأرجوانِي، العيون مفتوحة، متورمة قليلاً في الأسفل، يحفها سواد قَاتم، الشفاه يابسة، لَكأنها لم تَكن تُغري بِالقُبَل يوماً . كنت أرسم دون عناء وبدقة، كان الرسم هو اللغة الوحيدة التي انقل بها صورة الفجيعة، ثمة منظر ترددت كثيراً في رسمه، عَاشقان يعيشان لحظة حب، وحميمية باذخة، يطوقان بعضهما، ويتقاسمان الحياة، والمُوت، سوياً، كَتف الفَتاة مَكشوف، نُقش عَليه وشَم لخَارطة الَوطن، وحرف لأول اِسم لِحبِيبها المُصاب فِي آخر المَعارك، كانا لوحة منفصلة لحالها، يشدان انتباهك، وكأنك أمام لوحة الشونغا. الكُردي يرمم لوحته، بصمت غريب، يزيد مِن عَدد الحُراس في الثغور، ويبالغ فِي تزيين البوابات الضَخمة، بَعض التفاصيل للقلعة واضحة، ثَمار العنب المتدلية، والزيتون فِي الفَناء الخلفي للقلعة، البَهو الْواسِع، الأعمدة المنْقوشة بِرسومَات فارِسية، ثَمة رُخام يُزين الجِدار، ومَزهريات مَرصوصة بِعناية فائِقة، نِساء فَاتنات مِن أعمار مخْتلفة، بيض، يرتدين مَلابِس مُلونة، ومزركشة، ،يَكشفن عن سُوقهن ونَحورهن، بِشعورهِن الغَزيرة المنسدلة على أكتافهن السمراء، أقدامهن الصغيرة، هيف خصورهن يذكرني بصَغيرات في سُهول بلادي، حَيث حَكاَوي الدمُوع، والدِماء، وآلاف الشهداء فِي مَراقدهم المُباركة، هُناك أسير حَافِياً، واطئاً الأرض البِكر، بِرفق كَما عَلمتني جدتي، اَعلم أنه فِي كُل شبر يَرقدُ شَهيد بجَسده الطاهِر، وكَما قال خَالي، إنها اَرض المُوت. حِين نغضب تصبح كَالرعد، وَتكون مسرحاً للحُب حِين تصفُو النَفس، ونغدو كالحَليب، نتَسامر، وأشجار الدوم تَحجب ضوء القَمر، لِتضيف لِلمكان قُدسية، ودفئ صوت حفيف الشَجر جَمالًا كَخرير النَهر الهَادر. أمام البوابة الرئِيسية، يَقف فَارس عَلى جَواد أشهل، يُغطي وَجهه بِخوذة حَديدية، نَحيف، ذو مَلامح صارِمة، كَفارس اشوري، اللوحة كأنها مستُوحاة مِن كُتب التاريخ، تَحكي عَراقة المَكان، يَرسم بَزهو، لكأنما يَحكي تاَريخه الغابِر، أعقاب سجائره، وقَوارير النبيذ الأحمر، تَملأ أطراف الغُرفة، لا تَكلفُه كَثيراً، إذ يَعملٌ ساقٍ فِي حَانة لِتاجِر عِراقي، كَان عَالم فِيزياء في بِداية التِسعينات قَبل هُروبه، لَم يَكن سَعيداً فِي عمَله. لَا أحَد يَعرف ما السَبب. حَاولتُ تَرتِيب الغُرفة، ودهن الجِدار، دُون جَدوى، فَكرتُ، لِما لاَ ارسُم أنا أيضاً لُوحة فَارِس عَلى جَواد، يَحملُ عَلمًا اَزرق كَالبَحر؟، أو مُحارِبة سَمراء، تَلبس زِيًّا مُحذق، تَعتلي الصُخور الَقاسية، تُغري العُدو، ويكُون عَلى يَديها المُوت والنَصر . طَردتُ كُل الأفكار، وفتحتُ خزانتِي القُدِيمة، رسائل وخِطابات، مَر عليها زمن طوِيل، صُور تذكارية لِشخصِي، كنت فيها مليئاً بالحب، والحماس، وفتوة الشّباب، رسالة قَديمة، فتحتُها، كُانت من الأسرة، بخَط الوالِد، خُط أشبه بِخط النسخ، كُنت اَسمع فِي كل حرفٍ صوت الوالدة، تفاصِيل البِيت، ورائحة المَطبخ، قُهوة الصباح، وصُوت الأطفال، لُا اَدري إن كُنت قرأت تِلك الرِسالة من قبل، أو لم اَفعل، لَكن مَا أحسست به، كان شِيئاً مُختلفاً، شِيء يلسعك مِن الداخِل، ويصِيبك بالخَدر. تَحركت كملْسوع، توَجهتُ نحو المرآة، أبصرت وجهي، رغْم الْشِيب الذي عَلانِي، إلا أنني أحسست أني طِفلٌ صغير، أريد أن اَبكِي داخل حضن أمي، أن اَشتم رائحتَها، أن امسك طرف ثُوبها، حِين تخرج لِلجارات، شِيءٌ ما جَذبَني إلى الوَطن، أحببت أن أتمرغ فِيه، أحسست أنني مخنُوق، مِن تلك الأبراج الإسمنتية، والغُرف المغلقة، خُرجْتُ مُسرِعاً، حَزمت أمتعتي، توجَهتُ لِلمطار، لأجد نفسي وُسط دارنا، دُون مُوعِد. أشجار الدُوم، التِي كُنا نقْذفها بِالحجارة، وجِدتها قَد مَاتت، هُنا أحسست بالرغبة فِي الرجوع، لَكن لَم أفعل!.
اترك تعليقاً