أظن أن الحنانة:
هي المرأة التي تقرأ حنانها إلى أقدام وسيقان النساء،وليست إشتقاقاً.وما الحناء إلا الحنان نفسه يا أعزك الله.
وعند تأمل مفردة “الحنّانة” في الوجدان السوداني، تتكثف فيها معانٍ وجودية وثقافية، ويمكن قراءتها تأويليًا بوصفها استعارة للمرأة التي تُصرّ على تحويل الجسد إلى موقع حياة، معنى، ومقاومة.
وتحيلنا إلى الجذر “ح-ن-ن”، والذي يتصل بدلالات الحنوّ، الحنين، والرغبة في التئام الذات والجماعة.
“الحنّانة” إذًا هي من تُعيد رسم الذاكرة على الجسد؛ من تُمارس وظيفة فنية وجدانية تتجاوز الزينة لتدخل في الحقل الرمزي للشفاء، الحب، الحنين، والترميز الطقسي.

صوت لغوي يُنادي بالعودة إلى ما قبل التشظي
فكأن الجسد عبر الحنّاء يُصبح وسيطًا لاستعادة الانتماء المُمزق، أو على الأقل التماهي المؤقت مع زمن لم تُدنّسه الحرب ولا الاغتراب. ويُمكن النظر إلى “الحنّانة” بوصفها حارسة للذاكرة، تكتب على الجسد ما عجزت اللغة عن التعبير عنه شفاهة.
إن البنية الصوتية للكلمة (التي تتكرر فيها نغمة الحاء والنون) تهمس نغمةً دافئة، تُقارب مفردات “الأمومة” و”الحدب” و”الميلان الوجداني”، وهو ما يعمّق العلاقة بين الاسم ووظيفة الفعل. فالحنّانة لا تُلوّن الجسد بل تحنّ عليه، تُسَكِّنُ قلقه، وتحوّله إلى شاهد على البهاء رغم التصدّع.
و تُعيد ترتيب العلاقة بين الفرد ومجتمعه من خلال وسيط مادي (الحناء) يتحول إلى لغة سرّية بين النساء، وإلى رمز مقاومة أنثوي لجسد تمّت مصادرته تاريخيًا من قبل السلطة، الدين، والرأسمالية.
تُدوّن بالنقوش و الأثر الزمني الذي تطبعه الحناء على صفحة الجلد.كشكل من الكتابة الجسدية المؤقتة، التي تشهد على عبور الزمن، وتُقارب فنون الخط أو الوشم ولكن بلغة محلية، عاطفية، وسياقية بالكامل.
بهذا، تكون “الحنّانة” تمثيلًا لانبثاق المعنى من اللغة، لكنها أيضًا تمثيل لتحول اللغة نفسها إلى ممارسة حسّية وجمالية. إننا أمام مفهومٍ تقاطع فيه اللغة بالحواس، والدلالة بالمقاومة، والانتماء بالزخرفة، ما يجعل من “الحنّانة” مفهومًا أنثروبولوجيًا يعيد تأويل علاقة الجمال بالوجود في مجتمع محكوم بالتاريخ، الذاكرة، والعنف.
إعادة تعريف الجمال بوصفه معرفة ونقلًا للذاكرة
من دور “الزينة” الذي يُقدّم عادة في الثقافة السودانية. تنفتح لتمارس عملاً مركبًا يتقاطع فيه الفن، الشفاهة، والرعاية.فهي فنانة تعمل على “جسد-قماش”، وراوية تروي بالتكرار والنقش، ومعالِجة تُعيد الجسد المُنهك من الاغتراب، العنف، أو اللجوء إلى ذاته المُحتفى بها.
وفن الحناء بإعتباره بناء لنظام بصري خاص بالجماعة.فالأشكال والنقوش التي تُنفّذها الحنّانة تأتي من تراث بصري محلي مكوّن من الطبيعة (شجر الهشاب، الرموز النيلية، الحيوانات)، ومن الذاكرة الطقسية، ومن الخيال الأنثوي الذي يُبدع باستمرار من دون مرجع مكتوب.
بهذا، تضع الحنّانة نفسها في مواجهة صامتة مع “العين الاستعمارية” التي فرضت مقاييس للجمال مقرونة بالبشرة البيضاء، الجسد النحيل، الملامح المصقولة. نقش الحناء – بإبرازه للون الداكن، لليدين والقدمين، للجسد كحيز حيّ ونازف – هو مقاومة ناعمة لمعيار الجمال النيوليبرالي الذي يبتلع التنوع لصالح النمط.
ومن خلال القصص التي تُحكى أثناء الحناء، والنكات، والملاحظات الصغيرة، تُمارس الحنّانة دور الراوية.
فالحناء تُرسم وسط كلام، وتُرافقه، وتُصبح جسدًا حكّاءً. تسرد الحنّانات تجارب النساء في الزواج، الحرب، الفقد، الطلاق، وحتى في الجنس والرغبة، في مجتمع يُقمع فيه الصوت النسوي.
بالتالي، فإن الحنّانة تحمي سرديات صغيرة، وتُمررها جيلاً بعد جيل. إنها ترسم وتحفظ، وتعيد رواية العالم بمنظور نسوي خافت، لكنه مستمر. ويكون هذا الدور اقوى في مجتمعات الشتات واللجوء،فالحنّانة تصبح وسيلة لاسترجاع الذاكرة الجماعية، لغة الجسد، وأمان الأمكنة التي فُقدت.
ووسط أهوال الحرب، أو العنف المنزلي، أو المنفى، يصبح الجسد الأنثوي حقلًا للتشظي. فتعيد الحنّانة لهذا الجسد شيئًا من التكريم؛تلمسه، تُزيّنه، تمنحه وقتًا واحتفاءً. وهذه العملية، وإن بدت تجميلية، فهي في الحقيقة استشفاءٌ نفسي وروحي.ولطالما تجاوز العلاج كونه أدوية في التقاليد الأفريقية، ليتفجر إلى احتفال، طقس، لمسة، موسيقى.
والحنّانة تستبطن هذا؛هي تُصغي أثناء النقش، تُهدهد القلق، تنقش كما لو كانت تداوي، وتُعيد لصاحبة الجسد سلطة عليه – في مواجهة العنف الذكوري، أو الطب الإقصائي، أو صورة الجسد المتعب.
الحنّانة ونقد السلطة/الدولة/العولمة
في بنية الدولة الحديثة والعولمة النيوليبرالية، يُعاد تنظيم الجسد – خصوصًا جسد النساء – بوصفه “مُنتجًا” أو “مستهلَكًا”، خاضعًا للرقابة، للتسليع، ولإعادة التشكيل وفق مقاييس القوة. من هذا المنظور، الحنانة كفاعلة تجميلية، تُمارس فعلاً نقديًا مضادًا يُحرّض على استعادة الجسد من هذه البُنى، ويفضح كيف تتحرك السلطة من خلال أدوات “ناعمة”؛الموضة، الطب، الدين، والدولة.
ونلاحظ في خطاب الدولة الحديثة، خصوصًا في السودان ما بعد الاستقلال،كيف عومِل الجسد الأنثوي كحقل للتنظيم؛من خلال “قوانين النظام العام”، أو الخطاب الديني الرسمي، أو حتى مناهج التعليم. وهنا، تصبح الحنّانة في موقع “المُزعج الرمزي”؛فكل نقش هو إعادة كتابة خارج المقرر، كل لمسة هي إعادة توزيع للسلطة على الجسد.
وحين تُمنَع الحنّانة من دخول الأماكن العامة، أو يُوصَم عملها بأنه “غير أخلاقي”، فإن ما يُهدَّد في الحقيقة شكلًا من السيادة الجسدية والشعبية لا تستطيع السلطة أن تُقننه أو تُطوّعه. وفي ظل النيوليبرالية، يتحوّل الجمال إلى سلعة؛ تُباع في صالونات موحّدة، وفق مقاييس تصنعها الإعلانات ووسائل التواصل. يتم تفريغ الطقس من معناه الرمزي، وتحويل الحناء إلى مجرد “ستايل شرقي” يُستهلك سريعًا في مناسبات الزفاف أو عروض الموضة.

لكن الحنّانة، بطقوسها، بطئها، سردها، ورموزها غير القابلة للتقييس، تُقاوم هذا التحوّل. إن بطء النقش، وارتباطه بالحكي، والمكان، والعلاقات، يجعل من الحناء فعلًا غير قابل للنسخ في منظومة الإنتاج السريع.وكما في معظم المجتمعات، تُعيد الأبوية في السودان إنتاج نفسها عبر الأنماط الجمالية؛كيف “يجب” أن تبدو المرأة، من يُسمح له بلمس جسدها، من يُقرّر ما إذا كان هذا الجمال “لائقًا” أو “مفسدًا”.وتقلب الحنّانة هذا المنطق؛تُمكّن النساء من أن يقررن أشكال الزينة، تتعامل مع الجسد من موقع التضامن لا الرقابة، وتُعيد للمس معناها الحميمي لا المملوك.
الأهم من ذلك، أن الحنّانة ليست تحت نظر الرجل. تُمارس غالبًا في غرف النساء، في الهامش، في الزوايا غير المُراقبة. إنها مساحة للبوح، للهزل، للتماس، ولإنتاج جمال يخص النساء وحدهن – لا يُعرض للرجل، ولا يُنتَج من أجله، بل من أجل المتعة الذاتية.
كممارسة تقف في تقاطع ثلاثي؛ضد سلطة الدولة، ضد منطق السوق، وضد احتكار الأبُوّية لمعنى الجمال. إنها تعيد الجسد إلى النساء،كمكان للذاكرة، للسيادة، وللسرد غير الرسمي.
الحناء كذاكرة مقاومة ووسيلة للشفاء
في سياقات النزوح واللجوء التي فرضتها الحرب السودانية، يُصير الجسد ساحة تتقاطع فيها الجغرافيا، الذاكرة، والنجاة.وهنا تبرز الحنّانة بوصفها فاعلة ثقافية وجمالية تُعيد وصل ما انقطع، وتحوّل أدوات الزينة إلى وسائل للمقاومة الرمزية والشفاء النفسي.ففي المخيمات، المدن الجديدة، والشقق الضيقة التي لجأ إليها السودانيون، تنفلت الحنّانة كشبح مألوف، صوت خافت من الماضي، يُعيد تفعيل زمنٍ آخر.
إنها تحايل على النسيان،وطريقة لحفظ الأسماء والرموز في الجسد، حين تغيب الصور، البيوت، والقبور.ويصبح نقش الحناء أرشفة لخط زمني قُطِع،خريطة ذاكرة تُكتَب على اليد والساق، وتُروى في صمت.ويعيد كل خطّ امرأة إلى عرس لم يُكتمل، إلى بيت دُمّر، إلى جدّة كانت تقول: “الحِنّة كبري الجنة”.
ووسط ظروف اقتصادية خانقة، خصوصًا في لجوء المدن (طرابلس،كمبالا، القاهرة، نيروبي،جوبا)، أصبحت الحنّانة مصدر دخل هامشي للنساء اللاجئات.وجدن كثيرات من السودانيات –فرص في أسواق صغيرة، في البيوت، أو على الرصيف.وكما يبدو هذا من العمل من أجل المال؛هو أيضًا استعادة لهوية مهنية تُجرّمها السلطة أو تسخر منها النُخب. إنّه اقتصاد بديل، نسوي، غير رسمي، يقف خارج البنوك، العقود، والضريبة، ويعتمد على الثقة، المجاز، والجمال.
وكما نعرف، فالكثير من اللاجئات يعانين من صدمات عميقة؛ فقدان الأهل، التعرض للعنف الجنسي، التهجير القسري.هنا وفي غياب خدمات الصحة النفسية،يجدن الحنّانة، دون أن تدّعي ذلك، معالِجة.فالحكي معها، لمستها، الطقس التشاركي الذي تصنعه، كلّه يُعيد للنساء قدرًا من الأمان، من التواصل الجسدي غير العنيف، من الاعتراف بالوجع. وبالطبع هي لا تُشخّص الصدمة، لكنها تمنح مساحة للبوح غير اللفظي. تُحوّل الجسد إلى نصّ قابل للقراءة من جديد، وتمنح للحياة اليومية ملمسًا من الرعاية والاحتفاء، وسط عالم يميل إلى التوحّش.
نحو إستعادة لأدوار الأنثى المُهمَّشة عبر الجسد
لطالما لعبت الحنّانة دورًا يتجاوز الوظيفة التقنية لنقش الحناء.إنها فاعلة متعددة الأدوار، تقف عند تقاطع الفن، الحكي، والرعاية الجسدية.لكن هذه الأدوار، رغم أهميتها، ظلت مهمَّشة تحت وطأة الأبويّة والعقلانية الرسمية التي لا تعترف بالفنون الجسدية كأشكال معرفية أو علاجية.
وهي تعمل على جسد المرأة بوصفه سطحًا تعبيريًا. تستثمر رموزًا وخطوطًا ترتبط بالبيئة، بالأساطير، بالموروثات المتوارثة. تتقاطع خطوطها مع أنماط الزخرفة الكوشية القديمة، مع رسومات الجدار في بيوت الطين، ومع مفردات الخرز والثوب.
لكن بخلاف الفن المعروض في المتاحف أو الغاليريهات، فن الحنّانة زائل ومؤقّت، ولهذا بالضبط هو راديكالي. إنه فن يقاوم الهيمنة الذكورية على “الدوام”، ويفكّك سلطة التوثيق الكولونيالي التي لا تعترف إلا بما يُحفَظ.وهو تمرّد على الخطاب الفني السائد، الذي يستبعد النساء والفقراء والهامش من تعريف “الفن”. وهي تعيد تعريف الجمال بوصفه متحوّلاً، عابرًا، ومرتبطًا بالحياة اليومية.
في الجلسة التي تستغرق ساعات أو أكثر، تنسج عبر الحوار خيوطًا من القصص، الفضائح، الذكريات، الأمثال، والنكات. تُشارك النساء قصص العُرس، الطلاق، الفقد، الحبّ، والعنف، وتدون بذلك أرشيفًا شفهيًا هامشيًا يُؤرّخ لحياة النساء.وهذا السرد الأنثوي شكل من الاستعادة الرمزية للسلطة. في مجتمع يتحكم فيه الرجال في الحكاية الكبرى (التاريخ الرسمي، السياسة، الإعلام)، تبني الحنّانة ومَن حولها حكايات بديلة، غير خاضعة للرقابة، قادرة على إعادة ترتيب الذاكرة حسب منطق النساء لا السلطة.
دون أدوات طبية أو شهادة جامعية، تُمارس الحنّانة دورًا علاجياً جسديًا ونفسيًا. اللمس، الرائحة، الوقت، الحميمية، والطقس الجماعي؛ كلها تُعيد المرأة إلى جسدها، بعد أن فُصلت عنه بفعل الحرب، الاغتصاب، العنف الزوجي، أو الاغتراب اليومي.وتشبه الحنّانة في هذا الدور نساء “الشامانات” أو المعالِجات الشعبيات في الثقافات الأصلانية. إنها طبيبة حسيّة، تُداوي الشقوق اللامرئية، وتعيد للمرأة إحساسها بالسيطرة على جسدها ومساحتها، ولو مؤقتًا.
الحنّانة الخلّاقة، الحافظة، الشافية. إن الاعتراف بهذه الأدوار يعني ردّ الاعتبار لمهنة شعبية وهو محاولة لإعادة تعريف السياسة النسوية من الأسفل، ومن الجسد، ومن الطقوس اليومية التي تهملها النظرية الرسمية.
حرس الذاكرة المقاوم
في ظل النزاعات، النزوح، والانهيار المجتمعي الذي تعيشه السودان، لا يبدو أن هناك مكانًا للحديث عن “الحنّانة” كأولوية سياسية أو ثقافية. لكن في الحقيقة، فإن ما تمثله هذه المهنة من تراث حيّ وفاعلية نسوية هو ما يجعل حمايتها ضرورة، لا ترفًا.ويمكن التفكير فيها كنظامٌ اجتماعي، ومعرفي، ورمزي يعكس علاقات النساء بالجسد، بالزينة، بالطقوس، وبالهوية الجماعية. مثل “الخُصلة” التي تُفكّك نظام الهيمنة شعرةً شعرة، دون ضجيج.
وإذا كانت الحرب قد دمّرت المتاحف، وأحرقت الأرشيفات، فإن الحنّانة-بصفتها ناقلة شفاهية ويدوية للثقافة-تمثل ما يمكن تسميته بـ التراث المقاوم. تراث لا يُصنّف ضمن “الكنوز الوطنية” الرسمية، لكنه يعيش في الأزقة، في العيد، في جسد العروس،البنات، وفي وشم الجدة.
ترى كيف يمكن إدراج الحنّانة ضمن سياسات الحماية الثقافية، كجزء من التراث غير المادي؟وهل من الممكن خلق برامج لدعم الحنّانات كفنانات، لا فقط كعاملات هامشيات؟وما موقع الحنّانة في الفضاء العام اليوم، في ظل سطوة العولمة والمنتجات التجميلية الصناعية؟وهل يمكن للحنّانة أن تتحول إلى رمز مقاومة نسوية في زمن الحرب والشتات، تمامًا كما تحوّل الشعر أو الأزياء التقليدية إلى رموز للهوية والرفض؟
إن ما تحمله الحنّانة من معانٍ-يجعل منها شخصية تستحق أن تُقرأ قراءة فلسفية، نسوية، وفنية. إنها تجسيد حيّ لما يمكن أن نسميه سياسة الجمال اليومية، أو “micro-politics of care”.
وإن إعادة الاعتبار للحنّانة كمهمة ثقافية ومشروع تحرّري صغير يبدأ من الجسد، من الحي،الفريق، من اللحظة التي تُمسك فيها المرأة بيد أختها وتُنقشها بالحناء، كأنها تعيد رسم خريطتها الداخلية، وتقول لنفسها قبل العالم أنا هنا.
اترك تعليقاً