الحب مرآة للامتثال العاطفي

من سلسلة “إعادة إنتاج السرديات” | بقلم: يسرى النيل

في هذه السردية، لا أكتب فقط عن الحب، بل عمّا يُطلب من النساء أن يُقدّمنه باسم الحب.
عن كل مرة تخلّت فيها امرأة عن صوتها، حلمها، مساحتها — كي تُحَبّ.

أحيانًا، يبدو الحب مرآةً للامتثال العاطفي، ذلك الامتثال الخفي الذي يُمارس بلا وعي، لكنه يلاحق كثيرات من النساء — أولئك اللواتي يسعين لأن يُحَببن دون أن يُختزلن،
لكن يجدن أنفسهن يُطلب منهن التصغير لا الاحتفاء، المسايرة لا الشراكة، التجمّل لا الظهور كذوات حقيقية.

هذا الامتثال هو القوة الناعمة التي تتخفّى خلف وعود العاطفة، وتتحول، في أكثر العلاقات تنوّعًا — تقليدية كانت أو تقدمية — إلى وسيلة لإخضاع النساء، إلى آلية تُقزّم الطموحات، وتُعيد تشكيل الذات الأنثوية لتلائم خيال الآخر.

في هذا المقال الرابع من سلسلة إعادة إنتاج السرديات، أكتب عن المساحة التي تُطمس فيها النساء باسم الحب.
عن تلك العلاقات التي تبدأ بالوعود، وتنتهي بتقليص الذات، بإسكات الصوت، وبخسارة ما كان من المفترض أن يكون لنا.

أكتبه من تلك اللحظات المألوفة في حياة كثيرات — حين نصبح خافتات حتى لا نُزعج، مرنات حتى لا نُرفَض، قويات ولكن بالقدر الذي لا يُربك الآخر.

في كل سطر، ظلّ لصوت لم يُقل، وذاكرة امرأة لم تُروَ بعد.

أكتبه لا كقصة شخصية، بل كجزء من تاريخ عاطفي جماعي، نُعيد فيه تعريف الحب لا كحكاية رومانسية، بل كمساحة نطالب فيها بالأمان، والصدق، والشراكة دون اختزال.

كأن هذا النص من صوتٍ جماعي، تتقاطع فيه الذوات، ويصير الحب سؤالًا لا إجابة، سؤالًا نطرحه معًا، لا لنعرف من نحبّ، بل كيف نحبّ دون أن نُقزّم أنفسنا باسم الحب.

أهديكُنّ هذا النص — لا بوصفه إجابة، بل كنافذة مفتوحة بيننا، نطل منها على ما نراه معًا، وما نعيد تخيّله… يدًا بيد، كـ مساحة حب مشتركة.

الحب كما نراه: تأملات نسوية في معنى أن نُحَبّ، الحب، كما نعيشه نحن النساء، ليس كما يُروى في الأغاني أو المسلسلات.

ليس نهاية سعيدة، بل سؤال مفتوح:
هل يمكن أن نُحَبّ دون أن يُطلَب منا التنازل عن أنفسنا؟
هل يمكن أن يكون الحب مساحة اتساع… لا اختزال؟

كبرنا على أن الحب تضحية، وأن المرأة تُثبت حبها بالصمت والاحتمال، وأن الرجل يُثبت حبه بالبقاء — فقط البقاء، حتى وإن كان حضوره مؤذيًا أو متعالياً.

لكن حين ننظر بعين نسوية، نعيد السؤال من جديد:
ما هو الحب الذي لا يُكلفنا أنفسنا؟
من يُسمح له بأن يطالب، ومن يُتوقع منها أن تتفهم… وتصمت؟

الحب كامتياز… حين يُمنح الرجال أكثر مما يُمنح للنساء

في كثير من العلاقات، تكون السلطة عاطفية لكنها غير متكافئة.
هو يغضب، ينسحب، يُسامَح.
هي تطلب مساحة — فتصبح “تقيلة”، أو “لا تفهم الحب”.

يُربّى الرجال على أن مشاعرهم أولوية، وعلى أن الحب مساحة يُشكلون فيها النساء كما يشاؤون.
بينما تُربّى النساء على أن يكنّ مرنات، حنونات، داعمات — وألا يُربكن السردية.

حتى في أكثر العلاقات “تحررًا”، تبقى السلطة العاطفية متأرجحة:
تُشجّع النساء على الاختلاف الجذاب، لا على الاستقلال الحقيقي.
ويُعاد تشكيلهن — ليس بالسيطرة العنيفة، بل بالحب المشروط.

ماذا يُتوقع من النساء في الحب؟

أن يُهدّئن، يَحتوين، يُداوين.
أن يُجيدن الإصغاء، وتبرير الصمت، وتحويل التجاهل إلى “مساحة شخصية”.

أن يَحملن أعباء الشفاء العاطفي، ويُنتظر منهن ألا يتذمّرن، بل أن يَبدين “جاهزات عاطفيًا” حتى حين يكون الحبيب غير مستعد.

لكن هذا لا يعني أن التجارب متماثلة.
فالنساء لسن قالبًا واحدًا، ولا الرجال كذلك — ومع ذلك، تظل الأنماط تتكرر، في سياقات مختلفة، بأسماء مختلفة، وبذات الامتثال المطلوب.

الحب من منظور نسوي:

ليس تمرّدًا على الحب… بل تمرّدًا على قيوده الخفية.

الحب الذي نحلم به لا يطلب منا أن نُقلّص من أنفسنا لنُناسبه. لا يُربّينا على الصمت، ولا يُعاقبنا حين نعلو أو نحلم.

الحب الحقيقي لا يخاف من قوة النساء، ولا يراها تهديدًا. بل يحتفل بها، يساندها، يرى فيها شراكة لا منافسة.

هو حب لا يختبرنا، بل يحتضننا. لا يُقزّمنا، بل يُوسّعنا.

كيف نُعيد تعريف الحب؟

الحب لا يُقاس بعدد التنازلات، بل بعدد المساحات التي فتحتها لنا العلاقة لنكون أنفسنا، بكل تناقضاتنا، وكل تقلباتنا.

أن نُحَبّ، لا يعني أن نكون كاملات. بل أن نكون حقيقيات — ويُرى هذا الحقيقي فينا، لا كعيب، بل كحق.

وأكثر ما نحتاجه في الحب: هو الأمان.
أمان أن نكون، أن نرتبك، أن ننهار — دون خوف من فقدان الحب.

خاتمة

ربما لا تمنحنا الحياة الحب كما نحلم،
لكننا — حين نرفض أن نُقزَّم، أو نُختزل، أو نُسكت — نبدأ باستعادة تعريفه من جديد.

نبدأ بتخيله كمساحة نتوسع فيها، لا ننكمش. كعلاقة تُنبت فينا الثقة، لا الخوف.
كأرض نُحبّ فيها بلا امتثال.

هذا النص ليس نهاية، بل بداية — بداية لأسئلة نطرحها عن الحب، عن الأمان، عن استحقاق النساء لمساحات لا تُختصر.

نكتبه اليوم، كجزء من سردية أكبر، سردية لا تُهمّش العاطفة، بل تراها أرضًا للمقاومة. ولعلّ الحب، حين نُعيد تخيّله، يصير أداة للنجاة… لا للامتثال


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *