التوأم طيور قادمة من السماء

·

·

, ,

و نحن نتأمل في عمق الثقافة الإنسانية التي تحمل في طياتها أسرار الوجود و المعتقد، نغوص في طياتها هنا بتأمل في رؤية الدينكا الفريدة للتوأم … التي ترى فيهما ليس مجرد وليدين بل هبة سماوية وتجلياً لقدرة الإله بين البشر فحين تحمل المرأة بتوأم ينظر إلى الحدث على أنه لحظة مفعمة بالزخم الروحي تجر وراءها عالماً من الطقوس والتفسيرات المقدسة.

عند الدينكا، الميلاد ليس حدثًا جسديًا فقط بل واقعة كونية – روحية، لأن الطفل يُعتبر هدية من (الإله الأعلى أو السماء)، وفي حالة التوأم يُنظر إليهما كحالة استثنائية، كأن “السماء منحت الأسرة روحين دفعة واحدة”، ويفسرونه باعتباره علامة خاصة من العالم الروحي، كأن الروحين جاءتا معًا لغرض ما.

غير أن هذه الهبة السماوية لا تخلو من ثقل المسؤولية ومخاوف القلوب ففي الماضي كان ينظر إلى ميلاد التوأم على أنه مصدر قلق وهيبة أكثر منه مناسبة للإبتهاج إذ يعتقد أبناء الدينكا أن متطلبات الإله وأرواح الأسلاف تكون عالية جداً حولهما مما يستدعي استرضاءها بحذر شديد عبر طقوس عديدة معقدة، مثل أن تهب أبقار مخصصة لهما لا يسمح بالتخلي عنها ويحظر على الأم الاقتراب من ألبانها أو آنيتها كجزء من نظام طهري يهدف إلى حماية التوأم والعائلة من المخاطر غير المرئية.

لا يختصر النظرة  للتوأم كحالة إستثنائية عندهم فقط بل عابرة للشعوب مثل عند شعب النوير القريبة منهم، و في شعوب اليوروبا (نيجيريا)، التوأم (إيبي – Ibeji) يُعتبرون أبناء الآلهة، ويُعاملون بقداسة خاصة. إذا مات أحدهما، يُصنع له تمثال خشبي يظل في البيت تكريمًا لروحه.

ويطلق على التوأم في لهجات الدينكا المختلفة اسم الطيور (ديت – Diet) وتروى عنهم الحكايات بأنهم لا يموتون بل يطيرون إلى السماء وتشيع الروايات في اوساط الدينكا  أن أحد التوأمين إن لم يكن كليهما قد لا يعيش طويلاً مما يضفي على وجودهم صبغة من الحزن الواعي وشعورا بأنهم قادمون من عالم آخر وغير مخلدين في هذا العالم، ولهذا السبب فإن الطقوس التي تمارس حول التوأم منذ الميلاد حتى الممات تشبه إلى حد كبير طقوس الموتى وأرواح الأسلاف، فكل محطة في حياتهم من الختان أو الإزالة التقليدية للأسنان الأمامية السفلية إلى التدشين والزواج وأخيراً الدفن تتطلب إجراءات طقسية خاصة مما يضع عبئاً نفسياً ومادياً على الأسرة إذ إن الإخفاق في تلبية هذه المتطلبات الروحية قد يعرض الجميع لمخاطر لا تحمد عواقبها.

ويحكم ميلاد التوأم عند الدينكا أيضا نظاماً صارماً للتسمية يحمل دلالات بالغة الأهمية وتكون محددة مسبقاً، فالتوأم الذكران يسميان (“نقور” و “شان” ) والأنثتان (“أنقير” و “أشان”) وإن كانا ذكراً وأنثى فيسمى الأول (نقور) والثانية (أشان) أو العكس أما من يولد بعد التوأم مباشرة ويدعى (بول) إذا كان ذكراً و (نيانبول) إذا كانت أنثى فيحمل مكانة مماثلة كما للتوأم وكذلك من يليه ويسمى (أشويل) لكل من الذكر و الأنثى، إذ يعتبرونهم بديلاً روحياً يحل مكان التوأم إذا ما طار أي مات أحدهما أو كليهما.

و بكل هذه المراسيم ذوى الخصوصية الفائقة و المعقدة، يكبر التوأم أو البديل وفي داخلهما تصور أنهما أقرب إلى العالم غير المرئي (عالم الأرواح).

هذه التصورات بكل تعقيداتها تكشف عن نسيج ثقافي دقيق يربط بين المعتقد الأسطوري للنسل والتوائم طيور السماء والعالم الروحي الإلهي في السماء وهي ليست مجرد عادات وتقاليد بل فلسفة وجودية متكاملة تذكر الإنسان بأن الحياة والموت الأرض والسماء والإنسان والآلهة كلها أجزاء من دائرة واحدة مقدسة، لأن مفهوم التوأم من منظور روحي واسع ومتعدد الأبعاد، وتناوله يختلف باختلاف الثقافات والأديان والفلسفات الباطنية.

في العديد من الميثولوجيات، يمثل التوأم ثنائية الوجود: النور والظلام، الحياة والموت، الخير والشر، الذكر والأنثى.

مما يجعل سردية الدينكا عن حتمية موت أحد التوأمين، أقرب إلى ثنائية الحياة و الموت، في إزدواجيتهم الكونية بفكرهم، و من هنا تأتي قداسة التوأم، فهم رمز مادي لفلسفة روحية عميقة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *