التضحية المُقدسة

·

·

,

في دراسات الأنثروبولوجيا، تُعتبر العلاقة بين الإنسان والكون موضوعًا محوريًا لفهم تطور المعتقدات والممارسات البشرية. ومن بين أبرز العلماء الذين تناولوا هذا الموضوع، يبرز اسم جيمس فريزر، الذي قدم في كتابه الشهير “الغصن الذهبي” تحليلًا عميقًا لمراحل تطور هذه العلاقة، حيث رأى أنها مرت بثلاث مراحل كبرى: السحر، ثم الدين، ثم العلم. وفقًا لفريزر، يعتمد الدين على الاعتقاد بالكائنات الروحية أو الإلهية، بينما يتألف السحر من ممارساتٍ وشعائرٍ تتصل بعالم الغيبيات والقوى الخفية. هذه العلاقة المعقدة بين الإنسان والكون تُظهر كيف سعى البشر عبر التاريخ إلى تحقيق الطمأنينة والهدوء من خلال التواصل مع ما هو خارق للطبيعة.

يظهر القتل الطقسي كظاهرةٍ غريبةٍ تثير التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والمعتقدات الروحية. هذه الممارسات ليست حكرًا على ثقافةٍ واحدة، بل تظهر بأشكالٍ مختلفةٍ في العديد من الحضارات. على سبيل المثال، في الميثولوجيا الهندوسية، تُعتبر الإلهة كالي، رمزًا للموت والدمار، حيث تُقدم لها القرابين البشرية عن طريق الخنق. وفي الثقافة العربية القديمة، كانت الإلهة العُزى تُقدّم لها القرابين من النساء في مذبحٍ يُسمى “الغبغب”. هذه الطقوس، على اختلافها، تشترك في فكرة استخدام الموت كوسيلةٍ للتواصل مع العالم الروحي.

في بعض الثقافات، يتحول الموت إلى طقسٍ اختياريٍّ يُمارس وفقًا لمعتقداتٍ مجتمعيةٍ محددة. هذا النوع من الموت يُعرف بـ”الموت الطقسي الاختياري”، حيث يُقدم الشخص، غالبًا ملكٌ أو شيخٌ عشيرة، على إنهاء حياته بناءً على إقناعٍ مجتمعي. في السودان، تحديدًا بين قبائل النيل الأزرق مثل البرتا والقمز، كانت هذه الممارسة شائعةً في الماضي. عندما يتقدم الرجل في السن ويعجز عن القيام بمهامه، يُدفع إلى الإعلان عن رحيله عن الحياة بطريقةٍ طقسية، بعد أن يقتنع بأن موته سيكون انتقالًا إلى حياةٍ أخرى.

قبل حدوث الموت الطقسي، تُجرى سلسلةٌ من الطقوس التي تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من هذه الممارسة. تبدأ الاحتفالات بطحن الذرة وصنع “المريسة”، وهي مشروبٌ تقليدي، وحفر القبر. كل قبيلة لديها أسرةٌ متخصصةٌ في حفر القبور، وعندما تبدأ عملية الحفر، تُعلن الاحتفالات رسميًا. يُزور الشخص المحتفى به قبره يوميًا، راكبًا حصانًا أو بغلاً، ويُبدي ملاحظاته حول القبر الذي يُحفر على شكل بئرٍ متسعٍ من الداخل، مع دكةٍ مريحةٍ تُشبه الكرسي ليجلس عليها الميت.

عند اكتمال القبر، يُحدد يوم الموت، وتُنحر الذبائح، ويبدأ الغناء والرقص لمدة ثلاثة أيام بلياليها. خلال هذه الفترة، يُقسّم الميت ثروته بين أفراد عائلته. في اليوم الثالث، يُزف الميت إلى قبره وهو بكامل زينته، محاطًا بالحسان والطبول والمزامير. عند وصوله إلى القبر، يجري عدة أشواطٍ قبل أن يترجل ويصافح مودعيه وسط الزغاريد وعبارات التشجيع.

من يدخل الرجل إلى القبر هو “الكجور”، وهو الشخص المفوض بالقيام بالطقوس النهائية. يحمل الكجور مبخرةً وقرعةً من المريسة، ويتلو بعض الأساطير التي تروي حكايات الأجداد. بعد ذلك، يشرح للميت كيفية استخدام الأشياء التي ستُدفن معه، ثم يناوله قرعة المريسة التي تحتوي على مخدر. كلما احتسى الميت من القرعة، يعزم عليه الكجور، حتى يدب الوهن في أطرافه. عند هذه النقطة، يضع الكجور حربةً بين يدي الميت ويصعد إلى سطح الأرض، مُعطيًا إشارةً لجماعة الدفن. يستمر الكجور في الدعاء حتى يخفت صوته، وعندها تنطلق الزغاريد، ويعود المحتفلون لمواصلة الحفل وتلقي التهاني.

يعتقد الناس بأن هناك صلةً بين الحالة الجسدية لزعيم العشيرة وسلامة العشيرة نفسها. في المراحل البدائية من تطور المجتمع البشري، كان يُعتقد أن ضعف الزعيم أو مرضه يؤدي إلى ضعفٍ عامٍ في الطبيعة. في مملكة مروي القديمة، كان الكهنة يمارسون سلطاتٍ واسعةً، بما في ذلك تنفيذ القتل الطقسي للملك. ومع ذلك، في عهد الملك النوبي أركميني (218-200 ق.م)، تم إيقاف هذه الممارسة بعد أن هاجم الملك الكهنة في معبدهم بجبل البركل، مدفوعًا بتأثيرات التعليم الإغريقي الذي تلقاه.

لا تقتصر ظاهرة القتل الطقسي على السودان أو أفريقيا وحدها، بل تظهر في مناطق أخرى من العالم القديم، كما أشار جيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي”. في أفريقيا، انتشرت هذه الممارسة في مناطق مثل مملكة يوكون في أعالي نهر النيجر، حيث كانت مؤسسة “الملك-الإله” تُمارس لعدة قرون. ومع ذلك، استمرت هذه العادة في القبائل المنعزلة التي حافظت على معتقداتها التقليدية.

القتل الطقسي، بكل ما يحمله من غموضٍ وتعقيد، يظل ظاهرةً تستحق الدراسة لفهم كيف تعاملت المجتمعات القديمة مع مفاهيم الموت والسلطة والروحانية. في السودان، حيث تتنوع الثقافات والتقاليد، تظهر هذه الممارسات كجزءٍ من تاريخٍ غنيٍّ ومتعدد الطبقات. إنها تذكرنا بأن الإنسان، عبر العصور، سعى دائمًا إلى تفسير العالم من حوله، مستخدمًا الطقوس كجسرٍ بين الواقع والغيبيات.

المصادر:

  1. فريزر، جيمس. “الغصن الذهبي: دراسة في السحر والدين”. 1968.
  2. لعياضي، روميساء. “أغرب طقوس العالم (الخناقون)”. 29 نوفمبر 2021.
  3. الطيب، محمد. “القتل الطقسي في قبائل النيل الأزرق”. 2010.
  4. Griffith, F. Ll. “Meroitic Studies”. 1922.
  5. Arkell, A. J. “A History of the Sudan: From the Earliest Times to 1821”. 1962.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *