للكاتب: جون ريفنسكروفت -John Ravenscroft
ترجمة: أيمن هاشم
كانت مقصورة كوخٍ رائعة — أعمدة خشبية ضخمة وألواح صنوبر، ونوافذ تمتد من الأرض إلى السقف في ثلاث جهات من أصل أربع. أحبّها سايمون من اللحظة التي رأى فيها صورها في كتيّب العطلات. أما الواقع، فقد كان أجمل.
«ما رأيك؟» سأل ماري بينما كانت سيارتهما تصعد عبر الطريق الحصوي.
استدارت نحوه وتنهدت. «أعطني فرصة فقط»، قالت.
«آسف»، ردّ سايمون.
ركن السيارة ونزلت ماري. سارت نحو سياج مطلي يفصل واجهة المقصورة عن الحقل المجاور — سياج أبيض كالذي كانت تحلم به في صباها. وكان حلمها هذا من الأسباب التي دفعته لاختيار هذا الكوخ، وهذا الموقع بالذات.
راقبها لبرهة، وفكر: زوجتي، ماري. رأى كيف وضعت أطراف أصابعها واحدًا تلو الآخر على أعلى السياج، وتذكر كيف كانت تفعل الشيء ذاته على ذراعه العاري — كان ذلك منذ زمن، زمن بعيد.
خرج من السيارة وانضم إليها. مدد ساقيه وأحس براحة كبيرة. ولو كان الأمر بيده، لأخذ لنفسه كأسًا قوية من الويسكي، لكنّه كان قد أقلع عن الشراب. وقف بجوار ماري عند السياج، يفكك عقد التوتر من عموده الفقري، يستنشق هواء الريق الممزوج برائحة الطين والخشب الدافئ والأعشاب النامية.
امتدّ المرج الأخضر الخشن أمام ناظريهما، ينحدر من تجاه الكوخ – الذي سيكون ملكهم — للأسبوعين القادمين أو طيلة الفترة التي سيتحملان فيها بعضيهما— إنساب المنظر من شرفة الكوخ إلى الأسفل نحو جدول ماء صغير يلمع في الوادي الضحل بالأسفل. خلف الماء، على بعد خمسين مترًا تقريبًا، كانت هناك غابة. سيقان الأشجار وأوراقها المتراقصة كانت ساحرة تحت ضوء الشمس المائل.
تجولت ماري بنظرها إلى كلّ ذلك بصمت ولم ترفع يديها لتغطي أعينها من ضوء الشمس، كانت يديها ملتصقة بالسياح، ورأى سايمون كم يمكن لهذا أن يكون — كلاهما محبوس في عالمه الخاص، هو يمشي وحده بين الأشجار، والغبار والجذور المكسورة تحت قدميه. لم يكن يريد ذلك.
«ما رأيك؟» قال، وفي صوته نبرة ضيق، ندم عليها فورًا.
ضيّقت ماري عينيها تنظر إليه تحت شمس الأصيل، لكنها لم ترفع يدها لتحجب الضوء بعد. كانت أصابعها لا تزال مشدودة على حاجز السياج.
«إنه جميل»، قالت.
«مجرد جميل؟»
أدارت رأسها وأعادت نظرها إلى الحقل. حاول أن يرى الماء والغابة من خلال عينيها.
«لا»، قالت، «ليس مجرد جميل. إنه أجمل من الجميل. ربما يكون مثاليًا.»
أومأ برأسه.
«جيد»، قال. «هذا مطمئن إذًا.»
وبعد قليل، عادا إلى السيارة وبدآ في إنزال الأمتعة.
كانت في المقصورة سريران منفصلان. سألها إن كانت ترغب في أن يدفعهما معًا. نظرت إليه، ولم يستطع أن يقرأ تمامًا تعبير وجهها.
«هل تمانع لو لم نفعل؟» قالت. «ليس الليلة على الأقل. ربما لاحقًا.»
جلس في أحد مقاعد المقصورة الوثيرة، زجاجة (ويسكي) سكوتش على الطاولة بجانبه، وراح يراقب ماري وهي تتنقّل في الخارج. وبعد قليل، عادت إلى مكانها المعتاد عند السياج، تنظر إلى القمر. كانت ليلة دافئة. وتنبؤات الطقس مبشّرة. حتى الآن، كلّ شيء يسير على ما يرام.
لم يتبادلا كثيرًا من الكلمات، لكنهما رتبا الأمتعة، وأعدّا طعامًا معًا، وجلسا يأكلانه سويًا. ألقى نكتة، فابتسمت ماري. لم تتحدث عن الكحول، ولم يُثر هو مسألة الأسرة.
كان صمتاً مُريباً..
كرر «هذا مكان جيد»، قال نخب الغرفة الخالية. رفع كأسه تجاه الفراغ، يحيّي الكوخ، والغابة، والجداول — يحيّي قراره. نظر عبر زجاج كأسه، ورأى ماري، واقفة في ضوء القمر، تتحول إلى ذهب.
كان قد حجز الرحلة دون أن يخبرها — فاجأها بها بالأمس، أمر واقع. اشتعلت غاضبة، وكادت ألا تأتي. وخلال الطريق، حدثت لحظات من التوتر. لكنهما وصلا، وكان سعيدًا بذلك. وتمنّى أن تكون كذلك.
«مكان جيد»، قال من جديد. وكان صوته، حين عاد إليه، دافئًا وخشبيًا مثل كوخ الصنوبرية.
استدارت ماري ناحيته، توقفت لحظة، ثم أدارت ظهرها من جديد.
فيما مضى، كان تحب أن تنصت لصوته. كانت تقول: «حسنًا، قد تبدو ككلب، لكن على الأقل صوتك جميل.» كانت تبتسم وتنتشي حين يعرض أن يقرأ لها في السرير. وكان يحب أن تنام على صوته. لا يزال يشعر بلمسة أطراف أصابعها على فخذه، ويتذكر ذلك السلام الذي كان يغمره وهي تغفو على حكايات هـ. إي. بيتس أو توماس هاردي. حتى بعد أن تنام، كان يواصل القراءة، يحبها بصوته ويرسلها إلى أحلامها.
ثم، في لحظة ما، توقفا عن فعل ذلك. لم يتذكر لماذا، أو متى.
إرتشَف كأساً طويلة، وفكر في ذلك الوقت حين حملها على درج منزلهما الأول — شقة ضيقة فوق متجر يبيع زجاج النوافذ. أُصيب ظهره يومها، واضطرّ للرقود على لوح ثلاثة أيام. أحضرت له الحساء، وعادت إلى المنزل بجرو صغير. في تلك السنوات الأولى، كان الثلاثة يجلسون عند النافذة يشاهدون الناس، يشاهدون حركة المرور، يشاهدون الحياة تمشي في الشارع.
«أنت تحب أن تراقب الحياة، أليس كذلك؟» كانت قد قالت له ذات مرة.
راقب انعكاسها الباهت في الزجاج، كان ينظر إليها وهي تراقبه.
«نعم. مراقبة الحياة ليست مخيفة مثل عيشها.»
داعبت شعره، وألصقت أنفها بالنافذة الزجاجية. «مُراقبة الحياة من وراء زجاج»، قالت. ظلّت الجملة عالقة في ذهنه.
كانا يضحكان في ذلك الوقت. حتى الجرو كان يبتسم. لم يكن للزمن أوالمكان قيمة.
كان شبه نائم في كرسيه حين جاءت ماري تركض إلى المقصورة. «تعال إلى الخارج»، قالت. «أسمع صوتًا.»
وضع كأسه وتبعها. رحّبت به الليلة، والنجوم في كل مكان. وشق مُظلم الشكل غطى السماء فوق رأسيهما، وهو يطلق نداءً.
«هل هو بومة؟» همست.
«لا أدري»، همس بدوره. «ربما.»
تكرّر النداء، هذه المرة من الجهة الأخرى من الجدول، من جهة الغابة. بدا لسيمون صوتًا حزينًا. صوتًا نائحًا. مزّق دفاعاته، وتذكّر طفلهما — طفلتهم (الخديج) التي لم تولد. سمّياها كيت، واشتريا لها ملابس، وصنعا لها أحلامًا. بلا جدوى. لم تعد ماري تتحدث عنها. لم يكن سايمون والدها، لكن ذلك لم يعد مهمًا. حتى في ذلك الحين، لم يكن مهمًا جدًا. كانت الأمور مختلة، وكيت كانت فرصة لتعطيهما التوازن. وقد أُُخِذت منهما. هذا الكوخ كان فرصة أخرى، وربما الأخيرة. لم يُرِد أن يُؤخذ منهما أيضًا.
«أعتقد أنه كان بومًة»، قالت ماري.
نظر إليها، ووجد عينيها تتلألآن في ضوء القمر. أراد أن يقبّلها. وتمنّى لو أنه لم يترك كأسه داخل المقصورة.
«أظنّ ذلك أيضًا»، قال.
لمس يدها. فابتسمت من جديد.
عند الثالثة صباحًا، استسلم للأرق. تسلل خارج غرفة النوم، وسكب لنفسه كأسًا آخر، ثم عاد إلى كرسيه عند النافذة. كانت ماري قد أغلقت الستائر. قام بفتحها، جلس يراقب الحقل المُضاء بالقمر. بدا السياج أبيضاً وكأنه طافيًا في العتمة.
«هل انتهى الأمر؟» كانت قد سألته قبل أسبوعين. يتذكر التلفاز رابضًا في الزاوية، يبث نشرة الأخبار المسائية.
«ماذا؟» ردّ، متظاهرًا بالإنصات. زلزال آخر في أمريكا الجنوبية. تظاهر بأنه مهتم.
«هل انتهى الأمر؟»
لم يستطع أن ينظر في عينيها. إرشف من الويسكي، كما يفعل الآن.
«لا أدري»، قال أخيرًا.
سكتت لوهلة، ثم قالت: «أعتقد أنه انتهى.»
خلف السياج الأبيض رأى شيئًا يقترب، شكلاً مظلمًا يطير في الهواء. ثم دوى الاصطدام، قويًا بما يكفي ليهز المقصورة، وعاليًا بما يكفي ليجفل إلى الوراء. انسكب شرابه على السجادة.
تشقق الزجاج من أعلاه إلى أسفله. وسمع ماري تصرخ من غرفة النوم.
«سايمون؟ ماذا حصل؟ يا إلهي، ماذا فعلت؟»
«لا شيء»، ردّ. «شيء ما اصطدم بالنافذة. سأخرج لأرى.»
كان ضوء القمر خافتًا لكنه كافٍ. لم يحتج سوى ثوانٍ ليعثر على الطائر المصاب. كان بجوار السياج، ملقى على جنبه، يرتعش بشدّة. ركض فوق الحصى وانحنى بجانبه.
نادته ماري من عند الباب، تغلق رداءها الصباحي بإحكام في وجه الليل. كان شعرها منكوشًا. «ما هو؟» سألت.
أمسك بالطائر في يديه ووقف. كانت حركة الطائر عصبية، ولم يبدو واعيًا.
«إنه بوم»، قال. «أعتقد أنه من فصيلة ما.»
جناح واحد كان مرتخيًا بشكل غير طبيعي، أعتقد إنه جناحه الأيسر، والعظام مكسورة بوضوح. أما رأسه فلم يكن في وضعه الصحيح.
«ماذا يمكننا أن نفعل؟» قالت ماري، وقد انضمّت إليه عند السياج.
هزّ سايمون رأسه. «لا أظننا نستطيع فعل شيء. أعتقد أنه ميت بالفعل.»
«لكنه يتحرك. انظر إليه. يا إلهي، المسكين! فقط انظر إليه!»
اهتزّ البوم بين يدي سايمون. ثم فتح منقاره، وباهتزاز أخير توقفت الحركات. تحسس سايمون جسده بحثًا عن نبض، لكنه لم يجد شيئًا.
«لقد مات»، قال.
نظر إلى ماري، فرأى دموعًا في عينيها.
«لا أظنه تألم»، قال. «اصطدم بالنافذة فحسب، كاد يخترقها. أعتقد أنه اصطدم ومات فورًا.»
مدّت ماري يدها ولمست ريش البوم. لم يكن هناك دم. ولا قطرة واحدة. تمامًا كما حدث مع طفلتهم كيت. تمامًا.
«إنه جميل جدًا»، قالت ماري. «هل تعتقد أنه هو من كنا نسمع صوته؟ أظن ذلك. يا للخسارة!»
في نبرة صوتها، شعر سايمون بشيء يهتز في صدره. إزدرد لعابه قبل أن يتكلم.
«سندفنه عند الصباح»، قال. «سنأخذه إلى تلك الغابة، ونبحث له عن مكان طيب، وسندفنه معًا.»
نظرت إليه ماري. «نعم»، قالت. «نعم، هذا يبدو صائبًا. لنعمل ذلك.»
ثم نظرت إلى الكوخ. «ربما يجب أن يأتي أحدهم لإصلاح النافذة. ربما تهب ريح عاصفة. »
أومأ سايمون. كانت على حق، لكن شيئًا في داخله لم يرغب في إصلاح الزجاج. لقد اكتفى من مراقبة الحياة من وراء زجاج.
«لا أظن أن هناك عاصفة قادمة»، قال.
وقفا للحظة بجانب السياج، ينظران في ضوء القمر إلى الطائر الميت بين يديه. تمايلت ماري قليلًا، كما كانت تفعل حين تفكر في أمر ما. ثم لمست ذراعه بطرف أصابعها، وانحنت فجأة، وزرعت قبلة على خده.
«سأدفع السريرين معًا»، قالت. «أنا متعبة، حبيبي. هل ستأتي؟»
أزاح خصلة من شعرها عن خدها. «بعد دقيقة»، قال.
«لا تتأخر.»
راقبها تعود إلى المقصورة، ورفع يده إلى موضع قبلتها. ثم حمل البومة إلى السيارة ووضعها بعناية على المقعد الخلفي. «شكرًا»، قال، وهو يطوي جناحها المكسور ويرتب ريش الطيران الطويل. «شكرًا لك.»
من صندوق القفازات، أخرج كتابه المفضل — مجموعة قصص قصيرة لـ هـ. إي. بيتس. وضعه في جيب ردائه، وأغلق السيارة.
على شرفة المقصورة، وقف لدقائق في الهواء البارد، يحدّق في القمر. بومة أخرى عبرت أمامه، تطلق نداءً حزينًا، خفيضًا.
استدار، ودخل المقصورة، وأغلق الباب.
اترك تعليقاً