البحث عن السعادة

·

·

,

في زاويةٍ مضيئة من مقهى قديم بمدينة جنيف، جلس ألان دي بوتون يُقلّب صفحات التاريخ البشري كمن يفتش عن جرحٍ نازف تحت جلد الحضارة. كان يسأل نفسه: لماذا يتحول السعي وراء المكانة الاجتماعية إلى كابوسٍ يطارِدُنا كظلّنا في شمس الظهيرة؟ من بين ركام الإجابات، وُلد كتابه “قلق السعي إلى المكانة”، ليس كمرجعٍ أكاديمي، بل كمرآةٍ تُظهرُنا عراةً أمام أنفسنا، نرتعد خوفًا من أن نكون “لا أحد” في عيون العالم.

وفي مكان أخر: يُحكى أن جماعة من منطقة الزومة، قد جلسوا يتسامرون في وادي، وكان الوادي رطباً والقمر مكتملاً، بدت رمال الوادي الذي توهطوه أكثر لمعاناً، وهمّ الجالسون بالونسة، حتى إذا ما سألهم أحد القادمين وهو يقرع حماره ليحثه على الحركة، وهو يبصرهم يضحكون:
جاءته الإجابة، ويبدو أن الجالسين وصلوا حداً في السعادة يعادل النيرفانا، وبإيجادهم لذلك المعنى خرجت إجابة أحدهم كالأتي:

والله يا أخوي إحنا ما شدة ما مبسوطين، لو ربنا زاتو لغى القيامة والنار والجنة يكون أحسن لينا.!


لعنة الهرم الذي اخترعناه

منذ أن نقش المصريون أسماء الفراعنة على جدران الأهرامات، والإنسان يُصارع ليرتفع درجاتٍ في سُلّم وهمي. لكن دي بوتون يُنبّهنا: “الهرم ليس عدوك، بل هوسك بموقعك فيه”. لقد حوّلنا النظام الحديثُ المكانةَ إلى عملةٍ وجودية؛ فصرنا نلهث خلف الشهادات والمناصب كمن يملأ جرةً مثقوبةً بماء البحر. الأكثر إيلامًا أننا ندفع ثمن هذه اللعبة بأعصابنا: ففي عصر “الجدارة” (Meritocracy)، حيث النجاح مُرتهنٌ بالكفاءة، أصبح الفشلُ وصمةً أخلاقية، والفقرُ إهانةً للذكاء!


لماذا نصاب بالحمّى كلما ارتفعت حرارة السباق؟

يرسم الكاتب خريطةً لأسباب هذا القلق المزمن:

  1. شهوة الحب المفقود: كبالونٍ مثقوب، نحتاج إلى “هيليوم” الإعجاب الخارجي لتبقى ثقتنا منتفخة. حتى أن غياب “إعجاب” على منشورٍ افتراضي قد يُشعرنا بالتلاشي!
  2. رقصة مع الشياطين: “المتكبرون” (The Snobs) أولئك الذين يرسمون حدود قيمتنا بأموالهم أو مناصبهم. هم أشباح من الماضي، عندما كانت جامعة أكسفورد ترفض الطلاب غير الأرستقراطيين، لكنهم اليوم يتخفون في ثياب المؤثرين على “إنستغرام”.
  3. سجن التوقعات: كحالمٍ يراقب ساعة المنبه، نحن نعيش تحت سَيف “ماذا يتوقع مني المجتمع؟”. حتى أن الفلاح في العصور الوسطى – رغم فقره – كان أسعدَ منا؛ لأنه لم يُلام على فشله، بل اعتبره قدرًا إلهيًا.

خرائط الهروب من المتاهة

لكن دي بوتون لا يتركنا في العتمة؛ إنه يمرر إلينا مصباحًا فلسفيًا:

  • الفنون كمرايا مُشوهة: عندما يصور الأدب شخصيةً مثل “إيما بوفاري” التي ماتت سعيًا وراء حياة النخبة، أو عندما تسخر لوحات “بانكسي” من عبادة المال، نكتشف أن المكانة وهمٌ كبير.
  • الفلسفة سلاح المُتمردين: مثل ديوجين الذي طلب من الإسكندر الأكبر أن يبتعد عن أشعة الشمس، علينا أن نسأل:
    “ما الذي أريده حقًا بعيدًا عما يفرضه الآخرون؟”.
  • الصوفية الحديثة: البوهيميون لم يعانقوا الفقرَ كعقاب، بل كتحررٍ من عبء السباق. هم من رقصوا تحت المطر بينما كان الآخرون يتسلقون السلم الخشبي للقصور.

رسالة من زمن آخر

في مشهدٍ أخاذ، يستحضر الكاتب رسالةَ الفيلسوف الرواقي سينيكا: “أغلى الكنوز لا تُشترى، بل تُستعاد من أعماقك”. قد نضحك اليوم على رهبانٍ زاهدين في جبال التبت، لكنهم ربما فهموا سرًا نجهله: أن التحرر يبدأ عندما تتوقف عن عدّ النجوم التي في سماء الآخرين، وتكتفي بتلك التي تُضيء غرفتك الصغيرة.


كيف تُعيد بناء هرمك الشخصي؟

الدرس الأعمق في الكتاب ليس نبذَ السعي، بل إعادة تعريف النجاح. فالمكانة الحقيقية ليست رقمًا في حساب بنكي، ولا منصبًا على بطاقة عمل، بل هي تلك اللحظة التي تستلقي فيها على أريكتك القديمة، تقرأ كتابًا بينما المطر يعزف على النافذة، فتُدرك أنك – أخيرًا – لستَ بحاجةٍ إلى أن تكون “شخصًا ما”… لأنك أصبحت كلَّ شيء.


يكتب دي بوتون بسخرية المتنبي وحكمة الجاحظ: “المجتمعات تُشبه سيركًا كبيرًا، حيث نرتدي أزياءَ المهرجين طوعًا، ثم نشكو من أن أحدًا لا يأخذنا على محمل الجد”. ربما حان الوقت لنتعلم من ذلك الفيلسوف اليوناني الذي باع كل أملاكه، وحمل قنديلًا يبحث عن إنسان حقيقي… في زمنٍ مليء بالظلال.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *