في نصوصه المتأرجحة بين الحلم والواقع، يرى أرتور رامبو (1854- 1891م) أن المدينة ليست مجرد فضاء مادي يعيش فيه البشر، بل كائن حيّ مشحون بالروح والتاريخ والخيال. عند رامبو، تتحوّل المدن إلى مدن رائعة، رمز للحرية، والجمال، والانعتاق، حيث تتقاطع الطبيعة مع النشاط البشري، ويصبح الفجر لحظة ثورية وميتافيزيقية في آن واحد، وتحت هذا التحريض تتبعنا رؤية بعض الشعراء السودانية للمدينة / الأنثى / الجنة، في سير محموم بين شعراء يكتبون باللغة العربية وأخرين بالعامية، لنتتبع رؤية أولئك الحالمين، الباحثين عن المدن الرائعة/ ولنرى إشراقات أكثر وضوحاً وأخرى أكثر قتامة.!
قصيدة «Aube» (الفجر) واحدة من هلوسات (Illuminations) لآرثر رامبو شاعر الرؤيا:
لقد عانقت الفجر الصيفي.
لا شيء كان يحرّك الظلال، ولا قطرات الندى على الأعشاب، ولا أيّ أصوات.
سرتُ بين الغابات، أيقظتُ أنفاسها الحية، وحملتُها على أن تنظر إلى الكائنات الأولى.
كان الطريق مثقلًا بالزهور الجديدة، وقد دوّختني عطورها الكثيفة.
عند النهر، التمعتُ كالجواهر التي ذابت تحت نور النهار.
ركضتُ مثل امرأة جامحة إلى المدينة، وهربتُ منها كطفل مريض.
في الحقول، عند أطراف الغابة، حين الديوك صرخت،
رفعتُ يدي نحو الفجر، وقد شعرتُ بجسده الناعم.
وفي قلبه، عبر طريق خفيّ، التقيتُ بالمرأة العظيمة.
ابتسمت لي، كانت شفافة وساطعة كالماء،
لكنّي لم أستطع أن أوقفها ولا أن أتبعها.
أحسستُ بها تتوارى تحت الأشجار، وسمعتُها تتنفس عبر الطريق.
وعند الفجر، مسلّحين بصبرٍ متأجّج، سندخل المدن الرائعة.
كجراي صاحب الفجر الميت ورامبو صاحب الفجر المتقد
برؤية مغايرة، نجد الشاعر السوداني محمد عثمان صالح ( 1928-2003م) ولقبه كجراي تعني بلغة قبيلة السبدرات البجاوية، ويعني “المحارب” أو “المقاتل” في نصه “العائد من صحراء التيه” يُنشد:
“قد كنت لي فجرًا من الأمل المورَّد…يا نجمتي مات الشروق وكنت ألهث بين أودية العدمْ”
وبمقارنة بسيطة يتضح أن كلا النصين يستخدم الفجر كرمز لبداية أو أمل أو نور، لكن دلالاته تختلف، بينما الفجر عند الفرنسي هو أمل يتقد، نجد أن كجراي البجاوي يكتب عن أمل مفقود وشروق ميت. رامبو يستخدم الطبيعة للانتقال إلى المدينة، وكجراي يستخدم الصحراء والأودية لتمثيل العدم والفقد.
المدينة الأنثى لصلاح أحمد وفجر رامبو
وعند صلاح أحمد إبراهيم (1933- 1993م) نلمح التوتر في علاقته مع المدن الرائعة، ففي نصه نقرأ:
«هذا أنا، وهذه مدينتي، عند انتصاف الليل رحابة الميدان، والجدران تل تبين ثم تختفي وراء تلّ وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب»، يخاطبها تارةً بنبرة حزينة، وتظهر المدينة/ الأنثى متقلبة: رحبة أحيانًا، ضاغطة أحيانًا، جدرانها تتنفس وتتحرك كما لو كانت قادرة على الرفض أو الإغراء، وبذلك يكسب صلاح (شاعر الغابة والصحراء) مدينته هويةً و تمثيلاً واضحاً، «المدينة، يا وجه الحلم، يا عيون الغربة…» فهي كائن حي / أنثى / مرآة للذات.
بينما يغرد (الرائي) رامبو عن حلمٌ جماعي ورغبةً جماعية في إنعتاق، بإستخدامه لضمير المتكلمين الجماعي :
أحسستُ بها تتوارى تحت الأشجار، وسمعتُها تتنفس عبر الطريق.
وعند الفجر، مسلّحين بصبرٍ متأجّج، سندخل المدن الرائعة.
جنة السر عثمان الطيب ومُدن رامبو الرائعة
كما نلمح النداء المتأجج للشاعر السر عثمان الطيب (31 أكتوبر 1951م) في نصه المغنى (يا جلابة ) في أغنية يستجدي فيها التجار أو الرحالة الذين يجوبون البلاد. بنداء يحدد مسار البحث في البداية الى رحلتين: رحلة خارجية مادية لأماكن جغرافية ومدائن محددة.
ثم يطلب منهم أن يذهبوا إلى أماكن أسطورية أو يتداخلو لزمن وأماكن داخلية غير مرئية:
يمكن تلقوا.. مندّسى/ بين الروح وسط نفسى/ في مستقبلي.. وأمسي” ويمضي أكثر في نسق أكثر غرائبية ليحيل الأحتمالات إلى المدينة الرائعة / الجنة / ذلك المكان الذي كان يراه الرائي رامبو بكل وحشية:
يمكن تلقوا في جَنَّة، طنبوراً .. حنين رنَّ
حِس زغريدة الحِنَّة، بين خُضرة شُدر غابة
وفِرهيد زهرة جذابة، عانقت الربيع .. دابا.
وهنا نلمح مكاناً أو جنة حسية وطبيعية، مكان مليء بالموسيقى (الطنبور)، الصوت (الحنين، الزغاريد)، واللون (الخضرة، الزهور).بالرغم أن المدن الرائعة تمظهرت بمشهد شروق شمس وفجر وهو خط تصاعدي من الألوان ممتد، يبدأ من الغابة والأنوثة الرمزية للفجر، صعودًا إلى المدينة الرائعة واليوتوبيا، مع ألوان، إلا أن المكان الذي أشار له السر عثمان الطيب يعج بالمظاهر الحسية يبرز جمال اللحظة وفرديتها فيما يخص الرؤية أو حلم الشاعر وتصوره لمحبوبه.
اترك تعليقاً