الأنشودة الرعوية عند الدينكا – غناء العزلة ضد العزلة!

يترعرع الصبي من قبيلة الدينكا وسط أجواء حميمية، محاطاً بالأسرة الصغيرة والكبيرة ؛ حيث يجد الرعاية الطيبة.. يستمتع بالأحاجي ، الأمثال والحكم التي تخرج من أفواه الكبار كلما أسدل الليل أستاره، بعد أن يكون قد فرغ على أكمل وجه من أداء مهامهه النهارية المتمثلة في جمع روث البقر، رعي الاغنام وبعض المهام الصغيرة، وهي مهام مرتبطة بسنه او مرحلته العمرية (dhüuk)…

يظل الصبي علي هذا الحال حتى يجد نفسه خاضعاً لواحدة من أهم طقوس العبور (Gar  Nhom) – أي التشليخ. وهي ممارسة تعنى انتقاله من مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب (الرجولة) ؛ فالعمر لدي الدينكا لا يحسب بالعدد، بل بطقوس معينة!. ورغم ان هذا الإجراء -التشليخ- هو مصدراً للتباهي، ويجعل الخاضع له يتمتع بإمتيازات إجتماعية جديدة ، مثل الزواج ، المشاركة في مجالس الكبار ، المشاركة في الحرب ..الخ!. إلا انه يقلب حياته رأسا علي عقب، حيث تتضاعف مسؤولياته ونشاطاته وتزداد عليه لمشاق!.

إحدى هذه النشاطات، تتمثل في الإرتحال لمسافات طويلة مع “المراحات” التي تبلغ مئات الأبقار!. وتصاحب هذه الرحلة بالإضافة الى المشقة. عزلة كئيبة ، حيث يفقد دفء الأسرة ، وأجواء المنزل الحميمية – لفترة قد تطول – لذلك يجترح الصبي الذي صار رجلاً للتو وسائل كثيرة لكسر هذه العزلة ، ومن أهم هذه الوسائل الغناء (الإنشودة الرعوية).

إن الإنشودة الرعوية بقدرتها التعبيرية الكبيرة وأناقتها التصويرية المدهشة وبساطة لحنها وما يحققها من أهداف ترفيهية ، تربوية ، إجتماعية أو حتى روحية ، تقف في شموخ عند ناصية هوية وثقافة الدينكا، هذه الثقافة الثرة التي ظلمتها الشفاهية ، وغياب التدوين!.

يُفاخر الدينكا بمواشيهم، خاصة الثيران (الذكور المخصية)، والتي تحتل مركزًا في مؤسساتهم الاجتماعية، لا سيما الزواج الذي لا يتم دون تبادلها. كما يُعرِّف الإثنوغرافي إدوارد إيفانز-بريتشارد هذه العلاقة بـ”المفردات البقرية” التي تكثر في أغاني الرعاة، التي تتجلى في نوعين من الشعر الغنائي: أغاني الثيران (“كيب”) التي تمجد مالك الثور (المغني نفسه) وعشيرته، وأغاني “واك” التي تُؤلَّف في معسكرات التسمين حيث يقضي العزاب يوليو وأغسطس، ويتغذون على الحليب الوفير. تعكس هذه الأغاني هموم الشباب الريفي: نزاعات العشائر، والتنافس العاطفي، وصعوبة الحصول على ماشية من الأقارب لدفع المهر.

من أغنية “انظر إلى أبقارك، أيها الشاب”:

انظر إلى أبقارك، أيها الشاب

فعائلة أيو ستهزمك

ستُهزم!

أيها الجرو، احذر أيو

ستحتاج إلى أبقار كثيرة

لقد ثقبنا قرن ثورنا منقار وعلّقنا شرابةً عليه

بالرمح المُحمى، ثقبنا قرنه

والعروس تكافح كبقرةٍ مُسَيطَر عليها

لكنها ستضحك غدًا

أما أنت – أدرِكْ حياتك

فالعقرب سوف يعُضُّ مؤخرتك!


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *