(يبدو التاريخ كأسطورةٍ بأبطالٍ خرافيين، كلّما ابتعدنا عن وقائعه الحادثة، وليس حقيقة مجردة)
الكاتب: مغيرة حربية
في مثل هذه الأيام، قبل مئتي عام، عاشت الأميرة نصرة بت عدلان ذروة عصر ملكها غير المتوج واقصى فتوحات مجدها في الابهة والصولجان والحب.
وقدمت ابنتها “ضوة” وفتياتها الحسان، فائقات الفتنة والجمال، أمام طبقة السياسيين الجديدة والدبلوماسيين الأجانب والحكام الأتراك في ليالٍ ومنتديات صاخبة، احتشد بها قصرها المنيف في “السوريبة” عاصمتها المذهلة جنوبي مدينة مدني، يمزجن فيها الحس السناري التليد بنزعة الحداثة الصاعدة في سودان عشرينيات القرن الـ19.
عاشت الأميرة نصرة بنت عدلان، آخر ملوك الفونج، في دولة سنار السودانية (1505- 1821) حياة غرائبية وساحرة ومتحررة بالكامل، وأحاطت نفسها بأبهة المُلك وترف الأمراء والسلاطين على نسق حكايات “ألف ليلة وليلة” الأسطورية، ومسرودات “طبقات ود ضيف الله” السحرية والغامضة، ولم تأبه لفقدانها سلطان أبيها الذي قضى مقتولا بطريقة مطلسمة بعد أن أعد الجيوش الوطنية لصد غزو “محمد علي باشا” على السلطنة المتداعية والذي حملت الأخبار الشؤمة انتصاراته السهلة على “مكوك الشمال” وتقدمه المريح صوب العاصمة سنار، فتوعده، من دون هيبة، في رسالة مفتوحة بالهزيمة الماحقة في العاصمة “المحمية بالجنود والسيوف الهندية”. لكنه أخذ غيلة من بعض الشيوخ والأمراء المحليين المنافسين، بحسب جي سبولدنق، في كتابه “عصر البطولة في سنار”، ت: أحمد أحمد المعتصم الشيخ، في واقع سياسي وأمني مضطرب ومتآمر، قفزوا عليه في بيته ليلا، فقاتلهم بشجاعة عصر البطولة السناري المشهود، وحين يئسوا من مبارزته مجتمعين وكانوا أربعة مدرعين أمام صنديد وحيد، استعمل أحدهم السحر والطلاسم والغيبيات وضربه، غدرا، بسهم واحد موجه من الأمام ومن الخلف، معا، في رمية واحدة، أردته قتيلا وتفرقت، حيال هذه الضربة خارج قواعد اللعب النظيف، جيوش الأمير المتأهبة، وتحولت بفعل الطلاسم والتعاويذ لفص ملح ذائب.

في بلاط الأميرة نصرة
يصف الرحالة ريتشار هيل، في كتابه “على تخوم العالم الإسلامي، أكسفورد 1970” قصر الأميرة نصرة أنه شيد على غرار معبد قديم، ويحتل قلب مدينة “السوريبة” الساحرة على الطريق إلى سنار، وهي مدينة يبلغ تعداد سكانها نحو أربعمئة نسمة، كلهم من عبيد الأميرة، سليلة الوزراء القدامي في سنار، مبني من الطوب الأخضر، ويمتاز بجودة التخطيط والنظافة والأناقة، رغم أنه من طابق واحد، ويحيط بالقصر سور مرتفع متوازي الأضلاع، وخارج السور، على الجانب الشمالي الشرقي من المربع الضخم الذي يمثل مركز القرية، يقع الحائط الأمامي لحجرتي الديوان المتجاورتين وأمامهما فرندة، تستند في نهايتها إلى أعمدة ضخمة وتظلل المساحة التي تقع على طول الحائط، وهناك سلم دائري يقود إلى حجرة صغيرة بها نافذتان على جانبي الباب للإضاءة والتهوية، وبوابتان من القضبان الحديدية الصلبة يوديان إلى القاعة الكبرى ذات النوافذ الضخمة الست، وفي الفناء مزيدا من الحجرات وحديقة واصطبلا للخيول. وتقع مطابخ الأميرة جنوب القصر الذي تحيطه أكواخ عديدة متناثرة مساكنا للعبيد من الجنسين.
عاشت الأميرة نصرة حياة متحررة، كما يورد هيل، منذ طفولتها الباكرة، تختار أصدقاءها من العظماء أو غيرهم، انسياقا وراء النزوات الخالصة، جمالها أخّاذ ويميل لون بشرتها إلى الصفار الذهبي، تمشي في خطوات وؤودة ووقورة، تغري وتأسر المحظوظين من المعجبين من دون أن تبخل على أحد. وأطلقت الإبنة “ضوّة” لنفسها العنان في مغامرات جنسية أكثر انفتاحا بعد أن تزوجت الشيخ عبد القادر زائع الصيت. ويصفها هيل أنها فاقت نجاح والدتها في هذا المجال حين لم تكن تبخل على أحد من المعجبين، لأنها كانت تستجيب لأي أحد يأثر قلبها. كان أحمد باشا أبو ودان، حاكم السودان، أحد عشاقها المداومين ويختلق، دائما، الأسباب لجعل زوجها في سفر وغياب دائم بين أقاليم البلاد البعيدة ليجد الحرية في الاستمتاع معها حتى تسبب في طلاقها من زوجها وأرسلها لوالدتها قبل أن يتخلى عنها غاضبا، حين تجرأت بمغازلة “موسى بيك” مدير جزيرة سنار والذي سيصبح فيما بعد حكمدارا عاما على السودان، لأن الباشا كان يتخذها أميرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى وصفات، من دون أن يكشف سره أحد، واستمر حقد الباشا على موسى طويلا دون أن تكترث بنت الأميرة لذلك، ووثقت علاقتها بموسى أكثر فأكثر، قبل أن تهيم بالمفتش الطبي لحامية ود مدني، وكان فرنسيا في نحو الأربعين، هو دكتور جاسيير، قوي البنية، وله المقدرة لإرضاء أكثر النساء رغبة في الجنس، لكنه صداها في جفاء حين راودته عن نفسها فتمنع لأنه يعشق فتاة حبشية نالها قريبا، فعاودته “ضوّة” مرارا دون أن تظفر منه بشيء.
منتجع الحب والمجون
شيدت الأميرة نصرة بلدتها على نوع من النمط الغرائبي والسحري الفاتن، تحيط بها مروج الذرة الندية وحدائق القطن البضة، وتقطنها حسناوات من المولدات الهجين من كل لون وجنس، تتقدمهن الأميرة نصرة الساحرة البيضاء وفي خدمتها نحو خمسين من أجمل الفتيات لا عمل لهن سوى السهرعلى راحة الأميرة وتدبير ديمومة جمالها، وعند قدوم شخص ذو حظوة أو مال، تذهب هؤلاء الفتيات فورا للترفيه عنه طوال فترة اقامته في منتجعهن المعزول، ويختار الضيف من تروق له ليلا أو نهارا، ويطلب منه مقابلا أعلى بكثير من بقية النساء في القرية فيدفع بسخاء سكران. ويصور أحد الرحالة التائهين مشهدَ البلدة العجيبة والتي وصل غابتها توا بعد أن ضل الطريق، مناظرَ مدهشة ومفاجئة لفتيات يسبحن عاريات في مياه النهر الوادعة، كأنهن حوريات، وهن يرقصن ويتضاحكن في سعادة وشبق.
ويروي أحمد أحمد سيد أحمد في كتابه “تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري، أن الرحالة بايارد تيلور، زار البلدة أثناء مروره بالخرطوم، وتناول الطعام على الطريقة السودانية المرحابة عند مضيفته السلطانة نصرة، التي حولت القصر لصالون فاخر يستضيف الدوبلوماسيين والتجار وأصحاب الوجاهة والحظوة، من الحكام والأعيان والرحالة الأوروبيين وعقدت معهم صلات نادرة. ويورد هيل أن خمسة من الأوروبيين كانوا يقيمون في ود مدني، قصدوا قرية السوريبة لقضاء ليلة فيها وما أن ترجلوا من الخيول أحاطت بهم خمس فتيات حسان من حاشية الأميرة يحملن أواني المياه المسكرة يقدمنها للضيوف وهن جاثيات.

صور مُتخيلة تم توليدها بواسطة الذكاء الاصطناعي : GROK
السلطانة في المخيال الشعبي
تنحدرأسرة الأميرة نصرة، وفق أحفادها، من منطقة “كمير العوضية” غربي مدينة شندي، على النيل وأسفل جبل “كدركول” الكوشي الغامض، والذي يعني في اللغة النوبية القديمة “صاحب النساجة”، وهاجر جدها الأكبر إدريس صوب سنار ليعقد مصاهرات ونسب ملوكي مع حكام الفونج بعد انقلاب “محمد أبو لكيلك” الشهير الذي أتاح فرصة لاستعادة حكم “العنج” المترفين مرة أخرى، فتسنم “المناجل” الملك في السلطنة بأن أصبحوا الحكام الفعليين بقبضة الوزارة الحديدية وتهميش الملوك، مثلما يفسر جي سبولدنغ دينامية تغيير نظام الحكم في السلطنة منذ منتصف القرن الـ17، وأصبح أبوها عدلان، وهي بعد في سن المراهقة، الوزير الأول في السلطنة المتداعية بعد معارك ضارية وتنافس مرير على سدة الحكم الغارب.
لكن المخيال الشعبي، وسط المناطق التي حكمتها في مارنجان وبركات وعووضة وبعض أحياء مدني الحالية، يصور الأميرة نصرة حفيدة الملوك وأميرة السوريبة، أنها أمرأة شريرة متسلطة، وظالمة ومتجبرة، سامت رعاياها أنواعاً من التنكيل والعذاب، وتروي الجدات أن نصرة اعتادت أن تأتي للترويح عن نفسها على ضفة النيل الأزرق قبالة الغابة، في حشد من خدمها وحشمها وحراسها، وحين أصابها الملل من رؤية النيل أجبرت الحراس لاصطياد التماسيح وبناء أحواض ترمي فيها الأعداء ليكونوا وجبةً للتماسيح كلما ارادت نصرة الترويح عن نفسها .
ولا يفتر الخيال الشعبي من تشويه صورة الأميرة ورميها بالعهر والمجون والانحلال، ورسم صورة بالضد من شخصيتها الملكية وجمالها الأخاذ وفي يوم تمشيط شعر الأميرة ودهنها تُقام الاحتفالات السلطانية المترفة في القصر وتأتي الماشطات المحترفات من بلاد بعيدة مخفورات بالحراس، يمشطن شعر الأميرة ودهنه بأفخر أنواع الزيوت طوال أيام الاحتفال. لكن ماشطة جديدة تفاجأت أن شعر الأميرة قصير وقرمدي ولا يمكن تمشيطه وصارحت الأميرة التي استشاطت غضبا وأمرت الحراس بتعذيبها وسجنها حتى لا يزيع خبر شعرها القصير بين الناس.
وتكشف قصتها مع الشيخ “ود كنّان” صراعا مكتوما بين رجال الدين والسلاطين، وكان الشيخ أفتى بتحريم “المريسة”، وهي خمر بلدية شائعة تصنع من الذرة الرفيعة، يتناولها السودانيون كمكمل غذائي شهير، وأمرت نصرة باحضار الشيخ للمساءلة والتحقق من فحوى فتواه الغريبة، وجيء به إليها في البلاط مخفورا بحراس أشداء من قريته البعيدة وحين رأى الشيخ سطوة ملكها خشي على نفسه وقال كلاما مبطنا، ظاهره الدنيا وباطنه الدين، فنجى من كيدها المبين وشرها المستطير.
اترك تعليقاً