وأنا أكتبُ، تمرُّ أمامي كثيرٌ من الأمهاتِ والآباءِ المؤسسينَ، أفكّرُ: ماذا لو فقأتُ عيون أوهامهم بأسنان المشاهدات التي أرغبُ في تدوينها الآن بدلَ كتابتها؟
مفارقات ساخرة: كيف يُبدي كثيرٌ من (الأمهات والآباء المؤسسين) في منظمات المجتمع المدني، وحتى في المبادرات الإنسانية، استغرابًا وسخريةً من تمسك عمر البشير بالحكم طوال ثلاثين عامًا ورفضه تسليمَ السلطة؟ لكن المدهش – المأساوي في آنٍ واحد – أن هؤلاء أنفسهم حين يُمنحون “كرسيًّا صغيرًا” داخل منظمةٍ محلية أو مجموعةٍ تنسيقية، يمارسون ذاتَ الكنكشةِ ويخترعون ذاتَ الذرائع. وأظنُّ أن جانبًا من جينيالوجيا هذه الظاهرة ينبع من ثقافةٍ سياسيةٍ غيرِ مفكّكةٍ، تشربَت نموذجَ الحكم الأبويّ والهرميّ حتى حين رفعت شعاراتِ الثورة.
فالفعلُ الثوريُّ يُختبر بقدرة الأفراد على تفكيك النظامِ داخلهم – نظام الأنا، والاستثناء، والمركزية، و“البطولة المنفردة”.
إن حالةَ عجز التنظيمات عن تداول القيادة ورفضَ القادةِ التنحّيَ ليست سوى نسخةٍ مصغّرةٍ من ديكتاتورية الدولة. والحقُّ أن من لا يستطيع ممارسةَ الديمقراطية داخلَ لجنةٍ أو منظمةٍ لن يستطيع بناءَ دولةٍ ديمقراطية. فالحريّةُ لا تُمارس من أعلى، بل تُنبت من القاعدة في تفاصيل التنظيم اليومي، وفي قدرة الأفراد على الرحيل دون انهيار الهيكل، وفي شجاعة القائد أن يكون مجردَ عضوٍ.
من الرمزية إلى السلطوية
في الفضاءِ المدنيِّ والسياسيِّ السوداني، كثيرًا ما تُقدَّس لحظةُ التأسيس: تلك اللحظةُ المليئةُ بالحماسةِ والرؤية، حين اجتمع نفرٌ من الشباب والشابات أو الروّاد لصناعة كيانٍ جديدٍ — حزب، مبادرة، منظمة، أو لجنة مقاومة. لكن ما يُفترضُ أنه ولادةٌ مفتوحةٌ لمشروعٍ تشاركيٍّ يتحول في كثيرٍ من الأحيان إلى أرضٍ صلبةٍ لسلطةٍ مغلقةٍ يحتكرها من يُعرفون بـ“الآباء المؤسسين” أو “الأمهات المؤسسات”، تحت ذرائعَ تتراوح بين الخبرة والشرعية النضالية وصعوبة إيجاد البدائل، وهذا الإحساس العجيب بالأبوة والأمومة.
وتنبني شرعيةُ “المؤسس/ة” على تاريخه/ا في بناء الكيان وعلى مجهوداته/ا الأولى التي وضعت اللبنات الأساسية. هذا التقدير مشروعٌ في حدِّ ذاته، بل ضروريٌّ أحيانًا لتثبيت الذاكرة التنظيمية وبناء الثقة. لكن المشكلة تبدأ حين تتجاوز هذه الشرعية حدها الرمزي لتتحول إلى مصدر احتكارٍ للقرار وإقصاءٍ للآخرين. وما يلفت النظر أن هؤلاء “الآباء” أو “الأمهات” لا يصرّحون بنيّاتهم السلطوية، بل يقدمون أنفسهم حماةً للمشروع أو صمامَ أمانٍ ضدَّ الاختراق والتشظي. وهنا تبدأ ملامحُ الديكتاتورية في التكوّن داخل كياناتٍ تأسست أساسًا لمناهضة الديكتاتورية الكبرى في الدولة.
آليات احتكار القيادة باسم الشرعية التأسيسية
يتمُّ سردُ تاريخِ الكيان دائمًا من منظورِ المؤسس/ة، وكأن لا أحدَ غيرَه/ها عاش تلك اللحظة، فيُغيَّب المساهماتُ الأخرى ويُقلَّلُ من شأن من انضمَّ لاحقًا باعتبارهم “جددًا” أو “يفتقرون للرؤية الكاملة”.
كلما طُرحت فكرةُ تداول القيادة، يُعاد إنتاج خطابٍ مفاده “نحن نعرف تفاصيل اللعبة” أو “الوقت غير مناسب” أو “سننهار إذا رحلنا”. أعرفُ منظماتٍ غيرت دساتيرها في دوراتها التأسيسية لتمتدَّ كما فعل عمر البشير تمامًا.
يخلق هذا الخطاب بيئةَ خوفٍ مرضيٍّ تجاه التغيير، ويحوِّل المؤسسةَ إلى كيانٍ هشٍّ مرهون بشخصٍ واحد. وتغيب اللوائح أو تُفصَّل بشكلٍ يضمن بقاء القيادات. كما لا تُعقد الجمعيات العمومية بانتظام، ولا تُفعّل آليات التقييم أو المساءلة الداخلية، فتتحوّل القيادة إلى مركزٍ مغلقٍ بامتياز.
أفكّر في سياقاتٍ مثل اللجوء في أوغندا أو تجارب الخرطوم: كيف يسيطر المؤسسون على قنوات التمويل والتواصل مع المانحين، ويقدّمون أنفسهم كممثلين وحيدين، مما يصعّب على الأصوات الجديدة الظهور أو إقناع الممولين.
وكيف أن لجان المقاومة، التي ظهرت كأداةٍ شعبيةٍ للتنظيم والتعبير، سرعان ما كرّست داخلَ بعضها قياداتٍ قديمةً من الحراك الطلابي أو النقابي، تمسّكت بالمواقع التنسيقية باسم “الخبرة” و”حماية التنسيق من الاختراق السياسي”، فتخلق هذه الهيمنة صدامات مع الأجيال الجديدة وتؤدي إلى انقسامات داخلية قلّلت من فاعلية العمل القاعدي.
أمّا النموذج الأكثر فداحةً فهو في منظمات المجتمع المدني التي تأسست في بدايات الألفينات أو ربما أقدم، وما زالت تُقاد من نفس الوجوه دون أي تداول. هذه القيادات التي تحمل كاريزما وعلاقات دولية، باتت تمثل عائقًا أمام التجديد، ويشعر الكثير من الشباب والشابات بأنهم يُستغلون كأدوات تنفيذية دون أن يكون لهم رأي حقيقي في رسم السياسات.
وهنا في كمبالا، العاصمة التي أصبحت مركزًا للمنفيين السياسيين، نشطاء وناشطات المجتمع المدني من السودان، نشأت العديد من المبادرات والمؤسسات المدنية والثقافية(الشبكات الشبابية بكل نسخها المقرفة) بالإضافة إلى القديمة. ورغم انطلاقتها الثورية والتفاؤلات التي أثارتها، باتت محكومة بمؤسسين يتحكمون في التمويل والمخرجات والعلاقات، ويرفضون أي تداول حقيقي للسلطة بحجة أنهم وحدهم “يعرفون كيف تدار الأمور مع المجتمع الدولي” وحولوها إلى باحات خلفية للإرتزاق والبحبحة. فتتحول الكيانات إلى أجسام خاوية من الحيوية، يفتقر أعضاؤها للحافز والمشاركة الحقيقية.وكثير من الشباب/الشابات خارج دوائر ثلة (شلليات) المصلحة ينسحبون بصمت، أو يلجأون إلى تأسيس كيانات موازية، مما يفاقم الانقسامات-صراع التمويل والمصالح الشخصية.
وحين يرى المجتمع أن قيادات المبادرات تشبه – في سلوكها – من كانوا سببًا في مآسيه السياسية، يفقد الثقة في جدوى العمل المدني.وبدلًا من تأسيس نماذج بديلة للسلطة، يعيد المؤسسون إنتاج نفس الأنماط السلطوية؛ الفردانية، التوريث الرمزي، التمركز، وقمع الاختلاف.
آفاقُ تفكيك الهيمنة
كسرُ سلطة “الأمهات/الآباء المؤسسين” يستدعي تحولًا جذريًّا في فهمنا للمؤسسات، وبناءَ ثقافةٍ تنظيميةٍ تُعلي من التشاركية والتداول وتخضع الرمزية للرقابة. وهذا التفكيك لا يعني القطيعة أو الجحود تجاه المؤسسين/المؤسسات، بل محاولة فعل سياسي وأخلاقي يرفع مصلحة الجماعة فوق أي تمركزٍ فردي.
وكما نلاحظ ،في كثير من الكيانات السودانية – خصوصًا في المنظمات المدنية – يُشار إلى التداول كقيمة في الأدبيات، لكنه لا يُترجم إلى آليات عملية. وتغيب بلا خجل البنود الملزمة في اللوائح، ويُترك القرار “للزمن المناسب”، الذي لا يأتي أبدًا. لكن ربما،تضمين مادة واضحة تنص على تحديد مدة القيادة، وعدد دوراتها.و تخصيص فرص دعم وتمويل للمبادرات التي تُطبّق التداول بفعالية (يمكن ربطها بشروط المانحين) يمكن أن تكون خطوة إيجابية.
حيث نرى، كثير من المؤسسين يخلطون بين مكانتهم الرمزية (كأبطال تأسيسيين) وبين موقعهم التنفيذي. ويسمح هذا الدمج لهم بتبرير بقائهم عبر “الهيبة” وليس “الكفاءة الحالية.
كما أننا بمقدورنا إنتاج سرديات جماعية للتأسيس، تخلع القداسة عن الفرد الواحد، وتعيد الاعتبار لدور الفريق.حتى لانرى، في أغلب التنظيمات المدنية، العلاقة بين القيادة والقاعدة تشبه علاقة “المتبرع” بـ”العميل”، لا علاقة المشاركة المتساوية. و يُنظر للقيادة كـ“حاملة للحكمة”، بينما تُختزل القواعد في التنفيذ.وربما استحداث منصات تقييم دورية؛ كإنشاء آلية رقابة مستقلة، مكونة من أعضاء مستقلين، تُراجع قرارات القيادة. وبالتفكير في استخدام أدوات تكنولوجية لتوسيع المشاركة يمكن أن يشكل فارق.
ومعروف أن الهيمنة لا تنشأ فقط من السيطرة على القرار، وإنما تمثل إمتداد السيطرة على العلاقات الدولية (المانحين، الإعلام..الخ).
هذا ما يحدث كثيرًا في منظمات اللاجئين السودانيين في أوغندا، حيث يحتكر بعض الأفراد “التمثيل” و”التمويل”.
لذا هنالك ضرورة لإعادة هيكلة فرق الاتصال والعلاقات العامة لتشمل شبابًا وشابات من مختلف الخلفيات داخل المؤسسة وتوثيق كل ما يتعلق بالشراكات والممولين بشكل شفاف ومتاح للجميع، وتدريب الأعضاء على المهارات الدبلوماسية، لتوسيع دائرة التمثيل،كل هذا وغيره يدفع بمزيد من التفكير في ضرورة كسر هذه الهيمنة وإيجاد صيغ معالجة لهذا الإستبداد.
والملاحظة المهمة الشائعة، أنه يتم في العادة تأطير الهيمنة الفردية كمسألة أخلاقية (شخص أناني، مغرور، إلخ)، لكن هذا يختزل المشكلة في سلوك الأفراد.
وفي الحقيقة أن المؤسسات السودانية – بحكم تاريخها ونمطها الثقافي – تفتقر إلى البنية المضادة للسلطوية، أي أن المشكلة بنيوية.
ربما علينا فهم أن الديمقراطية التنظيمية عملية مستمرة وليست حدث انتخابي فقط.لذا علينا العمل على إدخال وترسيخ مفاهيم النقد السياسي والتنظيمي في جلسات التعليم الداخلي (التنظيم المضاد للسلطة،النقد الذاتي الجماعي..الخ) واستخدام أدوات “التحليل التنظيمي النسوي” أو “التحليل الطبقي”، لكشف من يحتكر الفضاء داخل المؤسسة ولماذا.
لكن علينا أن نعي، أن تفكيك سلطة وديكتاورية المؤسسين/المؤسسات يتم عبر إعادة بناء التنظيم وليس محاولات المواجهة وحدها. بحيث تبنى من الأساس على قواعد الشفافية، التشاركية، والنقد الذاتي. والسعي نحو إزاحة منطق السلطة والهيمنة نفسه. وليس الغرق في جدل قيادات قديمة/جديدة وبناء مؤسسات تُمكّن كل أعضائها، وتحترم الذاكرة دون أن تُستعبد لها. وقبل كل ذلك كله، الرغبة الصادقة وصدق العزم.
اترك تعليقاً