عزيزتي :
إعتصرَ قلبي الألم حين فكرت في إحتمالية أن تظني أنني لم أعدْ أفكر فيكِ، و أن هذا القلم لم يعد يُملأَ من حبر عينيكِ، و لكن ما حجبني عنكِ أني كنت أصارع هذه الرغبة في الكتابة إليكِ، رغم أنها تقريباً الشيء الوحيد الذي أفكر فيه طوال الوقت، غريب! اليس كذلك، أظن أني أخاف من هذه المكاشفة، و هذا التعري أمامكِ، لاني أغدو طفلاً سخيفاً شكاءً بكَّاءً.
قبل عدة أيام و أنا أفكر كعادتي، و أعمِلُ عقلي كالمحرك، صعقتني أقدم حقيقة عرفها الإنسان، الحقيقة المكتوبة في شفرتنا الوراثية، مصيرنا المحتوم و الهاوية التي نتجه إليها جميعاً…
” فكرة أنني يمكن أن أموت في أي لحظة ” لا أخفيكِ سراً أنني أصبتُ بالهلع، لذا رحت أفعل الشيء الوحيد الذي أعرفه لمجابهةِ الحياة ، كتبت و كتبت و كتبت، كتبت بشراهةِ لم أعهْدها، كتبت عن الورود التي في طريقي، عن الشجرة التي تلوح لي كل يوم، عن الغيمة، عن الطفل الأصم الذي علَّمني معنى الدهشة، و الرياح التي تلامس وجهي، كتبت عنكِ و عن أشياء كثيرة لم أعرف أنني أهتم بها حتى اللحظة، و كأن هذا الأشياء تطالبني أن أتركَ إمتداداً لها، أن أُخبرَ الناس عنها و أقول ” هذه الأشياء كانت هنا “. عندها قد نسمو و نفعل ما لم يفعله إنسان من قبل…… أن نهزمَ الموت.
كان دافعي لكل ذلك هو ما اخبرني به أحد المعارف عن الأهوال التي واجهها و هو في طريقه إلى المدينة، معنى أن يصير الخوف كائناً ذو هيئةٍ بشرية، أن تشعر به و هو يزحفُ داخلك و يحول أحشائكَ إلى نهر هائج، و مع الفارق الكبير بين التجربة و الحكي عنها إلا أن قشعريرةً باردة سرتْ داخلي، و قادتني لأن أعيد نظرتي في مفهوم الحرية، و كيف أنها أسمى ما يحوزه الشخص، إنها الطهارة في معناها الحقيقي و تمنيت لو في إستطاعتي أن أخذ ألم البشرية كلها، و أرميهِ بعيداً، و أنا هنا لا أدّعِي نُبلاً، لكنني أعلم منكِ بالالم و ما يمكن أن يفعله بالإنسان.
لن أكذب عليكِ وقعت في معضلة أخرى أيضاً، هل أنا أحبكِ لأنكِ أنتِ أم لأني أحب فكرة ” حبي إليكِ “؟ و كل ما أفعله هو تضخيم لهذه التجربة العاطفية قصيرة العمر، وقف هذا السؤال أمامي كالجبل، و حجب عني كل شيء أخر، و كبيتهوفن حين كانت تنقص سيمفونيتهُ بعض الألحان، لم أنم عدة ليالي و أنا أفكر في إجابة حقيقية، لا تتمثل في عبارة ”و أحِبُّ -حين أُحِبُّ- نائيةً لأن الشعِر يكمن في المسافة لا الغرام”.. حتى رأيتكِ ذلك اليوم و أنتِ تصارعين خُصلةَ شقية خرجت تجاه عينيكِ ترجو دخول نعيمها، و أنتِ تحاولين إعادتها داخل حجابك، يومها حلمت بكِ مساءً.
” تُحّدِثُني الأحلامُ أني أراكمُ
يا ليتَ أحلامَ المنامِ يقينُ “
كان لتلك اللحظة مفعول السحر، لحظة نبؤةِ وصفاء قلَّما تجود بها الحياة عليّ، كنا نقطع شارعاً رئيسياً و أنتِ تمسكين يدي بقوة خوفاً من السيارات، أذكر أني فكرت حينها ” كيف لهذه الاصابع الخمسة أن تحوي كل هذه الاسرار ” وآمنتُ بكِ لحظتها كما يؤمن الصوفي بالغيب، و التقي بالله، والنبي بالوحي و الرسام بأصابعهِ، و عرفتُ أن يديكِ هي أصل الأشياء و حقيقتها، هي البداية والنهاية، هي معنى الحياة وغايتها، و لا أملك وصفاً أدق من وصف حسين البرغوثي حين قال ” أرق من دمعة، و صوتها كالصلاة ” و هذا و الله في حقكِ قليل.
و اذا كنتِ تتسائلين عن حالي _ يا قلبي و رجائي و إجابة دعائي_ فانا ما زلت على نفس الشاكلة، ما زلت على عهدي القديم ” أن اضحك مع الناس فقط، و لا ابكي عند احدهم ” ما زلت أفكر كثيراً كثيراً في كل شيء، و كنت و ما زلت أحبكِ.
قد تلاحظين أن هذه الرسالة لا تشبه المعتاد، ولكن يا حبيبتي هل ترين ما ارآه؟ هل ترين هذا العالم المجنون؟ العالم الذي يسمح بتفجير الصغار و تهجيرهم، هل ترين الموت المجاني الذي يحيط بنا من كل جانب؟ إن هذه الاشياء تتأكلني من الاطراف كما الجُذام، لذا كتبت لك عنها، لاني أحتاج أن أكتب إلى شخص ما… ” أن أُفرغَ راسي من خردتهِ الثقيلة ” أن أقاسمكِ _ اذا سمحتي لي فقط_ هذا الليل الطويل.
أنني أكتب بخطِ يدي، على الورق دائماً، لا احب هذه الاجهزة الذكية، أحب أن اتخيلكِ وأنتِ تفتحينَ الرسالة، اتخيل كلماتي و هي تصعدُ لتخشعَ و تصلي في ليلِ عينيكِ، بهذه الصورة يخيلُ لي أن هذه المسافة بيننا أقصر مما هي عليه.
لكن بعيداً عن كل هذه، هل أخبرتكِ أني حلمتُ بكِ كثيراً في الفترة الاخيرة، نفس الحلم كل مرة، أنا و أنتِ جالسين في احد المقاعد، لكنكِ تديرينَ وجهكِ الى الجهةِ المقابلة وظهركِ قُبالتي، ومهما حاولت لا استطيع رؤية وجهكِ، فقط شعركِ و رائحتهُ المنعشة القادمة من حقول الليمون، اتحدثُ كثيراً لكنكِ لا تنطقين، وفقط حين أهُمُ بالنهوضِ والذهاب، أسمعكِ تهمسين ” إبقى معي هنا، دقيقة هنا أعمق من سنة بالخارج ” و لا افهمُ ماذا تقصدينَ بالخارج حتى أستيقظ.
حاولت أن اجد تفسيراً لهذا الحلم، و كما تعرفينني، فانا لا أحب التفسيراتِ العلمية ولغتها الحادة، أتفهمُ وجودها لكني لا أستسيغهُ، لذا حاولت أن أجد تفسيراً يخاطبُ مشاعري، تفسير استطيعُ أن أُشكلهُ كيفما اشاء، ووجدتُ ضالتي في رواية ” اعراس آمنة “
يقول الكاتب على لسان احد الشخصيات :
” هل تعرفين لما يحلُم الناس؟ يحلمون لانهم لا يشبعونَ من الحياة، ليشعروا أنهم مستيقظون، وأن شيئاً لم يضِع عليهم “
أظن أن هذا ما يحدث، لم أشبع من وجودكِ لذا أبتكرتُ هذه الطريقة لأجدكِ في عالم أخر.
لا أستطيع، أن أخبركِ كم مرة فكرت في الكتابة اليكِ في الفترة الأخيرة، لانني ببساطة_ و أعذريني إذا بدت عبارة مبتذلة_ أفتقدكِ بشدة.
في الحقيقة أفتقدُ حضوركِ الذي ينثرُ على الأشياء نوعاً من الإلفة، و يسِّدُ قليلاً هذه الهوة الموجودة داخلي، لأنهُ صدقيني يا وردتي الرقيقة، في هذا العالم المجنون، كنتِ أنتِ الشخص الوحيد، الذي أستطيع أن أخبرهُ أن بعض الزهور ألقت عليًَ التحية، و ضحِكَتْ في وجهي، قبل أن تكمل طريقها، هكذا بهذه السهولة.
آه! يا عزيزتي، في كل مرة أمُرُ فيها قرب أحد الأماكن التي زرناها، تتكسرُ كل الذكريات داخلي، إنها كقطعِ الزجاج في رأسي، و مثل كل مرة أشعر بالألم_ الذي أكرههُ و تكرهينهُ_ يزحفُ في دمي كالدودِ في الجِّيَف.
في الفترة الأخيرة، لا أستطيع أن أكُفَّ عن التفكير في أخر لقاء بيننا، وكيف قلتِ أنني شخصُ غريب، او كاذب على أقلِ تقْدير، لأنني أمنحكِ شعوراً مختلفاً كل مرة، وأنا لا ألومكِ على أي شئ، كل ما في الأمرِ أنني على خلافِ مع هذا العالم منذ أن خُلِق، أمرُ ما كُسرَ داخلي و أنا طفل صغير، و لا أظن أنه سيلتئم، في الحقيقية أنا أرى نفسي كمسخ، لذا أخافُ أن أظهرَ بوجهي الحقيقي، أواجهُ صعوبةً في تصديقِ أن شخصاً ما قد يعجبهُ ما يراه، لكنكِ كنتِ مختلفة، أريدكِ أن تعرفي ذلك، و لو أن هناك شخص إقتربَ من وجهي الحقيقي فهو أنتِ
لا أعلم إن كانت لأجزاءِ الجسم، ذاكرة مختلفة عن بعض، لكني أشعر_ ومن اليوم الأول الذي صافحتكِ فيه_ بهذا الشعور الذي لا يوصف، شعور أشبه بالأحلام، بأن يدي لمستكِ قبل ذلك، هناك في مكان خارج الزمن، إلتقينا، و قبلّتكِ بخفة، على وجنتيك، أقسم لكِ أن هذا الشعور حقيقي، لدرجة أني اذا مددتُ يدي قليلاً أستطيع الأحساسَ بوجهكِ، و هو ينبضُ تحت يدي.
تتسائلينَ لماذا أحب الرسائل جداً؟ رغم تطور وسائل التواصل. لذا هذا جوابي:
كنت اطالع تطبيقاً يعرض قطعة فنية يومياً مع شرحِ بسيط لكل منها، و وقع الاختيار اليوم على لوحة تحمل عنوان ” سيدة تقرأ رسالة ” و أنا كما تعلمين أحب الفن و إن كنت لا افهم معظمه، لكني وجدت نفسي اذوب في تفاصيل هذه اللوحة بالذات. لأن الرسائل وسيلة لمعرفة الذات، و فيها يتعرى الانسان من لوثات العالم الخارجي، و يعود الى هيئتهِ الاولى_ اي طفلاً صغيراً_ و يعرض كل ما في داخله على الورق.
فلادمير نابكوف في رسالته الاولى لزوجته فيرا كتب فيها : ” لن اخفي عليكِ، لست معتاداً على أن اكون مفهوماً ” و ” أعلم انني رجل ممل و مزعج، غارق في بحر الأدب لكنني أحبكِ ” . إن شعوري تجاهكِ مماثل و اعلم الى اي حد يمكن أن اكون مملاً لكن ما الحيلة؟_ يا خطيئتي و شمسي و يا كل انوار حياتي _ لا أستطيع أن لا أكتب اليكِ، و لا يهم إن كنت أكتب عن مواضيع أبعد ما تكون عني و عنكِ، لأني على كل الأحوال عليّ أن أحاربَ هذا القلق و أنتِ سلاحي الأهم و ربما الوحيد في هذه الحياة، لذا لا تخذليني. و رجائي فقط أن لا تنسيني؛ لأن هذا عندي مرادفُ للموتْ، و أنتِ تقرئينَ هذه الرسالة حاولي أن تتذكري ملامحي… ” انفي الطويل و عيناي الحزينتان، شعري غير المرتب، جسمي الشبيه بقول بشار : إِنَّ في بُردَيَّ جِسماً ناحِلا، لَو تَوَكَّأتِ عَلَيهِ لَاِنهَدَم … تشاؤمي السخيف، و ضحكتي الساخرة “.
اعذريني على هذه النبرة الآمِرةْ لكن تحدثي عني كثيراً، نحن نعيش من خلال القصص حتى وإن كان جسدي بالياً و ربما هذا ما يجعل ” دون كيخوته ” حقيقياً اكثر من العديد من الناس لأنه عندما نحكي_ يا عزيزتي_ فنحن بشكل ما نحاكي الخلود، والشخص الخالد عاش و يعيش و سيعيش اكثر من كل منا، و هذا دافع أخر كي أكتب، لأني اعرف أن تاريخي هنا قصير. لذا لهذه الفترة البسيطة فقط، قومي بواجبكِ تجاهي و حاولي إبقائي على قيدِ الحياة.
بالامس كتبتُ اول قصة في المجموعة التي أعمل عليها، لا أظن أن موضوعها سيعجبكِ لكنه يلّحُ عليّ، بعد مرور بعض الوقت تنفصل الشخصيات من ذات الكاتب، ويصبح لها كيانها الخاص، وكلها تصرخ في اذني الأن أن أرسم لها حياة كاملة، أن لا أبتر وجودها في المنتصف. هيكلها الأساسي ناتج من تأثري الكبير بفرانز كافكا، أقرب الروائيين إلى قلبي فقد صحِبتهُ زمناً طويلاً و حين قرأتُ بالأمسِ مقدمة ” التحول ” لولهة شعرت بأنها تصفني، بأنني أنا هو” جريجور سامسا ” استيقظت يوماً لأجدَ العالم كله يرفضني، وشعرت بأنه عليّ أن أعيد قراءة أعمالهِ مرة أخرى. معظم حياتي أشعر أنني على شفا حفرة من الجنون، أسير على أرض هشة تحتها كل أنواع القلق و المخاوف، دائماً ما كان كافكا موجوداً ليؤكد لي أنني جننتُ بالفعل.
تبدو اجزاء هذه الرسالة غير متماسكة، و يعود هذا الى عدم توفر الوقت الكافي لدي لكتابتها كاملة، و ساترك لكِ رفاهية تخمين اي جزء و المكان الذي كتب فيه. حاولي تخيل اي فقرة تنهدتُ فيها، و اي جزء أعدتُ كتابته، و ستجدينَ أن لخيالكِ القدرة على تصور شفاهي و هي تطبقُ على شفاهكِ.
اليوم وفي طريقي إلى المنزل فجأة تخيلتُ يدكِ وهي تلامسُ خدّي، آه! يديكِ الساحرة. وتذكرتُ هذا المقطع مباشرةً ” and if a double decker bus crashes into us.. to die by your side is such a heavenly way to die “.
إن كان المقطع يعرض الموت في إطارِ رومانسي، لكنه يوضح حقيقة جوهرية، اذا كنت لا أستطيع اختيار حياتي فعلى الأقل اختار طريقة موتي و اذا كان الموت امراً حتمياً فليكنْ بجانبكِ.
أرأيتِ ماذا يحدث في كل مرة ارسل اليكِ؟ أنني اتحولُ الى طفلِ ثرثارِ و مزعج. لكن هذه الرسالة ستكون أخر عهدكِ بي، عليّ أن أفلتَ يدي من حفنةِ الوهم هذه ” أن الحياة ستضعنا في خط واحد مجدداً ” و أن أحاولَ أن أتركَ أثراً صغيراً علَّ أحدهم ينظر اليه و يراني و أنا هناك في السماء. أما أنتِ فكل ما أفعلهُ هو لأجلكِ لكن كتبَ علينا أن ننظر الى بعض من خلفِ الزجاج، و أقول لكِ كما قال كيركيغارد لريجينا حين اهداها كل أعماله :
” اليكِ، إلى الابد “.
اترك تعليقاً