معتقدات الدينكا آقار: إحتفال “ثونق روك” وإعادة تأكيد الهوية!.
سايمون أتر
في حدثٍ روحي وثقافي يحمل في طياته عمقًا أنثروبولوجيًا فريدًا، تحتفل عشيرة Rör-Diöör “ريديور/ضين ديور” بصفة خاصة، ومجتمع كوي Kuei، بل مجتمع الآقار بصفة عامة، بما يعرف بـ “ثونق روك” Thong Rok، وهو احتفال روحي واجتماعي في قلب ثقافة الدينكا، يُقام كل ثمان سنوات في موقع ضريح “أجوك قوب” Luak Ajok Gop، أحد المزارات الروحية المقدسة، إلى جانب Luak Mayual – أي ضريح مايول، المؤسس للنظام الديني/الروحي لعشيرة Rör-Diöör.
تعود أصول هذا الاحتفال، كما جاء في المرويات الشفاهية، إلى “زمانٍ بعيد… قبل قدوم الرجل الأبيض”، في فترة تقلد فيها أربعة زعماء روحيين السلطة، أي قبل مئات السنين بحسب طريقة الدينكا في التزمين. وتروي الحكاية أن روحًا جليلة حَلّت على الزعيم الروحي الأكبر بعد تواصله مع الله [Nhialic]، فأطلق على إثرها نداءً “مقدسًا” عُرف لاحقًا بـ (نداء أقوات مكوير قّول)، دعا فيه الناس إلى الوحدة والمرونة وأهمية التأمل الروحي. ومنذ ذلك الحين، أصبح إقامة احتفال (Thong Rok) تقليدًا لتخليد هذا اللقاء الإلهي.
صار النداء طقسًا ثابتًا يسبق افتتاح “ثونق روك” رسميًا، حيث يقوم الزعيم الروحي الحارس للمزار بإعلان موعد الاحتفال ودعوة الجميع للحضور، مع التشديد على إحضار أبقارهم ونسائهم/فتياتهم لتلقي البركات. للنساء والأبقار الحيز الأكبر في طقوس “التبريك”، ولهذا الأمر دلالته العميقة في ثقافة الدينكا، حيث تمثل الأبقار والنساء معًا عناصر جوهرية في المنظومة الاجتماعية والروحية.
الأبقار، في مجتمع الدينكا، ليست مجرد ثروة مادية، بل هي محور الحياة ورمز المكانة الاجتماعية، وعنصر أساسي في كافة الطقوس والمناسبات. تُستخدم في المهور التي تُبرم الزيجات وتوطد الروابط بين العشائر، وتُدفع كديات في النفس وما دون النفس، كما تدخل في التهادي بين الناس تعزيزًا للصداقة والأخوة. الأهم من ذلك، أن الأبقار مصدر غذاء وحياة يومية، وجزء من هوية المجتمع.
أما النساء والفتيات، فيعكس حضورهن مكانتهن المحورية في استمرارية النسل وحفظ التقاليد، ودورهن كحاملات للبركة والخصوبة. ففي ثقافة الدينكا، تُقاس مكانة المرأة بخصوبتها وقدرتها على جلب الأبقار كمهور، مما يجعل دعوتهن إلى جانب الأبقار أمرًا ذا رمزية عميقة تؤكد تكامل الأدوار الروحية والاجتماعية.
يستمر الاحتفال أسبوعًا كاملًا، حافلًا بالفعاليات الروحية والثقافية. في عشية الافتتاح، يقيم الزعماء الروحيون أمسية من الصلاة والتأمل، مرشدين المشاركين عبر طقوس لتطهير العقل والروح. يتشارك أفراد المجتمع في سرد القصص، مستعيدين حكايات الأسلاف والدروس المستخلصة منها، بما يعزز الشعور بالهوية، والانتماء.
مع بزوغ الفجر، يقام الاحتفال الكبير في ساحة المزار، حيث يتشكل موكب بإيقاع الطبول والأغاني العاطفية التي تتردد أصداؤها في ارجاء القرية. يرتدي المشاركون أزياءً تقليدية، لكل غرزة ولون فيها قصة أمل وكفاح وانتصار.
داخل المزار، يستدعي الزعماء الروحيون حضور الزعيم التاريخي “مكوير قّول ميين” Makuer Gol Meen، طالبين البركات للمجتمع. تُوضع القرابين على المذبح تعبيرًا عن الامتنان للماضي والتطلع إلى المستقبل، بينما تملأ الترانيم المقدسة الأجواء في طقس جماعي للتطهير من السلبية واحتضان الإيجابية، بما يعزز شعورًا عميقًا بالتواصل – سواءً مع الآلهة أو الأسلاف أو بين أفراد المجتمع أنفسهم.
ومن أبرز الفعاليات مشاركة “روح الوحدة”، وهو عمل رمزي يجتمع فيه أفراد المجتمع يدًا بيد لتشكيل حلقة، يتبادلون في داخلها تطلعاتهم وأحلامهم والالتزامات التي سيحافظون عليها خلال السنوات الثماني المقبلة. هذه اللحظة تجسد جوهر مجتمع الآقار: “قوة الفرد هي قوة الجميع”.
إن كرنفال “ثونق روك” ليس مجرد احتفال بالتقاليد لدى مجتمع الآقار، بل هو إعادة تأكيد على الهوية والقيم. إنه احتضان لتعاليم “مكوير قّول”، وتجسيد لروح “مايوال”، وحفاظ على إرث روحي وثقافي يوجه خطواتهم نحو المستقبل.
اترك تعليقاً