إثنان في واحد

·

·

,
الكاتب: فلان أوبراين
ترجمة: مصعب عثمان

القصة التي انا بصدد روايتها الآن غريبة، ربما غير قابلة للتصديق. سأحاول معالجتها بأكبر قدر من البساطة استطيعه. لا أتوقع اي إزعاج في عملي الأدبي هذا، لأني أكتبه من داخل زنزانة المحكومين بالإعدام . دعونا نقل ان إسمي هو مورفي. الأسباب غير العادية التي قادتني إلى هذا المكان تتصل بعلاقاتي مع رجل آخر سندعوه كيلي. نحن الاثنان كنا محنِطين (نعمل في التحنيط).

لا أنوي تقديم بحث علمي عن ماهية التحنيط، الكلمة قبيحة وغير معبرة. وهي قطعاً لا توصل لفهم الرجل العادي ان عملية مماثلة تتطلب صفات عالِم حيوان، وعالِم طبيعي، كيميائي، ونحات، فنان، ونجار. من سوف يلوم شخصاً كهذا على إظهار بعض تقلب المزاج بين الحين والآخر، مثلما فعلت انا؟ إنه من الضروري على أي حال تقديم كلمة موجزة عن هذا العلم. أولاً، لا يوجد شئ في الممارسة الحديثة للتحنيط مثل “حشو” حيوان.

هناك سجلات تتحدث عن غوريلات محشوة في قرطاج في القرن الخامس، وحقيقة، أن أميراً نمساوياً يدعى سيغموند هيبرستين، قد حشا ثيران بايسون في قاعة قلعته الكبرى في القرن السادس عشر _ تلك كانت الممارسة المتبعة آنذاك لإخراج أحشاء الحيوان وإستبدالها بالتوابل وشتى المواد الحافظة الأخرى.

هناك طُرُق متنوعة للإستخدام اليوم ولكن، بإستثناء حالات معينة _ الثعابين على سبيل المثال، حيث الحفاظ على شفافية الجلد يمثل مشكلة تتطلب قياسات خاصة _ أساسيات الأساليب الحديثة هي هذه : تقوم بسلخ الحيوان بعناية شديدة مستخدما نمطاً معيناً في القطع ، وتقوم بتغليف الجسد منزوع الجلد في الجص الأبيض، تقوم بشطر الجص بعد ان يجف إلى نصفين لتعد قوالب متطابقة تستطيع منها ان تصنع نسخة من جسد الحيوان _هناك عدة مواد خفيفة جداً يمكن أن تصنع مثل هذه النسخ. الخطوة التالية، التي تتطلب مهارةً وصبراً لا نهائيين، هو أن تثبت الجلد على نسخة الجسد هذه. هذا كل ما احتاج لتوضيحه هنا، كيلي كان يقوم بأعمال التحنيط وأنا كنت مساعده. كان هو الرئيس _ رئيس خنزيري ومتعجرف، متنمر، وسادي، كان يكرهني، ولكنه كان يستمتع بكرهه لدرجة تمنعه من طردي.

كان يعرف ان لدي إهتماماً جدياً بالعمل، ورغبة لتوسيع خبرتي. لهذا السبب كان يلقي علي كل الأعمال المبتذلة. إذا ارسلت إحدى النساء العجائز كلبها التيراير المفضل للتحنيط، كان ذلك علي انا، الثعالب والقطط، وخيول شوتلاند والأرانب البيضاء _ كل هذه الحيوانات كانت توجه مباشرةً نحوي. يمكنني القيام بعمل مثالي في حيوانات كهذه وانا نائم، ولقد كرهتهم. ولكن إذا دخل إلينا تمساح أو عنكبوت بورنيو العظيم، أو ( كما حدث ذات مرة ) زرافة _ كان كيلي يحتفظ بهم لنفسه. وفي هذه الاثناء، كان يتعامل مع عملي المضني بالسخرية والتهكم والشكاوي. في أحد الأيام كان الهواء في ورشة العمل كريهاً حتى اكثر من المعتاد، مع مزاج كيلي الاقذر من المعتاد، قضيت الظهيرة انهي العمل على قطة، وحوالي وقت الغداء، وضعتها على الرف حيث يضع هو الطلبيات المنجزة. استطيع سماعه تقريبا يصرخ غاضبا حول الأمر، أين الذيل؟ أخبرته انه لا وجود للذيل فهذا قط من نوع مانكس. سأل كيف امكنني معرفة انه من نوع مانكس، كيف عرفت انه ليس قطاً عادياً فقد ذيله في حادث دراجة بخارية أو شئ ما؟ شعرت بالغضب لدرجة اني سمحت لنفسي بخوض نقاش عن القطط بشكل عام، ذاكراً الفرق بين فيليس مانويل وفيليس سلفستريس وفيليس ليبيكا، والتركيب الفريد لقط المانكس. وكان رده: أن دعاني بالمهمل. هذا هو نوع الحياة التي حصلت عليها! .

في هذه المناسبة زمجر شئ ما بداخلي، كنت متأكداً لقد سمعت الزمجرة، لقد تحركت نحوه لأرد على إهانته الأخيرة، المخلوق البغيض كان مولياً ظهرة نحوي، منحنياً لأسفل ليضع مشابك دراجته، بجانبي على الطاولة كان هناك واحد من تلك الأدوات الفولاذية المسطحة التي نستخدمها في بعض عمليات الجص. إلتقطتها وضربته بها في مؤخرة رأسه، أطلق صرخة وقفز للأمام، ضربته مجدداً. لقد أمطرت الضربة تلو الضربة عليه، ثم ألقيت الأداة بعيداً، لقد كنت غاضباً، لقد ذهبت خارجاً إلى الساحة ونظرت حولي. لقد تذكرت انه يملك قلباً ضعيفاً. هل مات؟ اتذكر تعديلي لوضعية برميل نملكه في الساحة لإلتقاط ماء المطر، النوع الوحيد من المياه الذي يناسب بعض المخاليط التي نستعملها. أتذكر اني كنت غارقاً في العرق البارد ولكن هادئاً بشكل غريب. قفلت راجعاً إلى ورشة العمل.

كيلي كان تماماً كما تركته. لم أستطع إيجاد نبض. قلبته على ظهره وفحصت عينيه، لقد رأيت العديد من العيون الميتة في الماضي أكثر من معظم الناس. نعم، لم يكن هناك شك!، كيلي كان ميتاً. لقد قتلته. لقد كنت قاتلاً. إرتديت معطفي وقبعتي وغادرت المكان. تمشيت في الشوارع لفترة، محاولاً تفادي الفزع، ومحاولاً التفكير بعقلانية. بشكل حتمي، إنتهى بي المطاف في حانة، شربت الكثير من الويسكي وفي النهاية رجعت إلى المنزل لحفرياتي.

في الصباح التالي، كنت بالفعل مريضاً جداً بسبب هذا المزيج الفظيع من الكحول والقلق. هل كانت مسألة كيلي محض خيالات، تهيؤات مخمور؟ لا، لم يكن هناك عزاء في هذا النوع من الأمل، لقد كان ميتاً بكل المعاني. كنت مستلقياً هناك في السرير، مرتجفاً، مفكراً، ومدخناً. وهذه هي الفكرة الجنونية التي طرأت في رأسي : لا شك انها بدت غير قابلة للتصديق، بشعة، بل وحتى مقززة، ولكني قررت معاملة كيلي مثل أي حيوان ميت وجد طريقه للورشة. ما أن يدخل أحدنا في مناخ الرعب، فإن الفرق بين عمل شائن وآخر، يبدو طفيفاً وزلقاً، احياناً غير قابل للإكتشاف. في ذلك المساء ذهبت للورشة وبدأت تحضيراتي. لقد عملت بشكل ثابت طوال اليوم التالي. لن أُرعب القارئ بتفاصيل شنيعة. كل ما احتاج لقوله، هو أنني طبقت التكنلوجيا العامة ونمط السلخ المستعمل لسلخ القرود. العمل إستغرقني أربعة أيام حصلت بعدها على جلد مثالي، وجه وكل شئ. قمت بعملية الصب المعتادة قبل إرسال _ إن جاز القول _ البقايا إلى الفرن.

خطتي كانت الحصول على كيلي في منظور يبدو فيه نائماً على كرسي، لمصلحة اي شخص يمكن أن يأتي. اقنعني المنظر بأن هذا خطير جداً. كان علي إعادة التفكير. فكرة إضافية أبعد بدأت تتشكل. لقد كانت رهيبة لدرجة حتى انا نفسي إرتجفت لها، لعدة ايام كنت أتعامل مع الطبقة الداخلية من الجلد بالمواد الحافظة المعتادة_ اسيتات السليلوز وما شابه_ مفكراً طوال الوقت. ضوء الفكرة الجديدة وقع على كالصاعقة. سأنتهي من العمل على الجلد، وعندما تدعو الحاجة، سأصبح كيلي! ملابسه تناسب قياسي. وكذلك جلده. لما لا؟.

ايام اُخرى من العمل المضني مضت في شتى التنظيمات والتعديلات ولكن تلك اليلة تمكنت من أن انظر في قطعة من الزجاج وان أرى كيلي ينظر بدوره إلي، كانت التفاصيل مثالية في كل شئ فيما عدا الأسنان والعيون، والتي كانت لي، والتي أعرف أن الآخرين لن يلاحظوها. بطبيعة الحال إرتديت ملابس كيلي، ولم أواجه اي صعوبة في المحاكاة غير السارة لصوته وتكلفه. في اليوم التالي، بعد إرتدائي للحُلة_ ان جاز التعبير _ ذهبت للتمشية، وتلقي التحايا من بائعي الصحف ومن أشخاص آخرين عرفوا كيلي. وفي اليوم التالي كنت متهوراً بما يكفي لزيارة مسكن كيلي، في اي مكان على وجه الأرض كنت؟! أرادت ان تعرف مالكة المسكن. (لم تلاحظ شيئاً.) ماذا، سألت انا_ الم يخبرك ذلك الأحمق مورفي بأنه توجب علي السفر إلى الضواحي لبضعة ايام؟ لا؟ لقد طلبت من عديم الفائدة ذاك ان ينقل لك الرسالة. نمت تلك اليلة في سرير كيلي. كنت أشعر بقليل من القلق بصدد ما ستظنه مالكة المسكن الأخرى بصدد غيابي انا. قررت أن لا انزع جلد كيلي في اليلة الأولى التي قضيتها في سريره، ومحاولا جعل الجزء الباقي من “حملتي” مثالياً وأكثر وضوحاً. في النهاية قررت انه يجب على كيلي ان يعلن لمعارفه المتنوعين انه ذاهب لشغل وظيفة ممتازة في كندا، ولذلك قام ببيع أعماله لشريكه مورفي. سأقوم عندها بإحراق الجلد، سأملك عملي الخاص و _ ما هو الاكثر غباءاً من الغرور! _ سأقوم بتهنة نفسي سراً على إرتكابي (الجريمة الكاملة).

هل هناك حاجة للقول اني تغاضيت عن شئ ما؟.

مستحضرات التحنيط التي استعملتها بداخل الجلد كانت، بالطبع مخصصة لأعمال التحنيط العادية. لم يخطر لي ان ليلة في سرير دافئ سوف تجعلها تتصرف بطريقة مختلفة. الحقيقة المروعة التي نزلت علي في اليوم التالي عندما ذهب للورشة وحاولت نزع الجلد عني، أنه لا يُنزع! لقد إندمج حرفياً مع جلدي! وفي الايام التالية تسارعت هذه العملية. جلد كيلي يجب أن يعيش مجدداً، أن يتنفس، أن يتعرق.

في الأيام التالية من التوتر المريع، مالكة مسكني اتصلت في احد الايام تستفسر عني من “كيلي”. اخبرتها بأني كنت الآن على وشك الإتصال بها لمعرفة اين انا!. لقد كانت شديدة الإستياء من غيابي _ ذلك تصرف لا يشبهني _وقالت بأنها فكرت بأنه يجب عليها إعلام الشرطة. فكرت بأنه سيكون من الحكمة عدم محاولة ثنيها. غيابي سيصبح مع مرور الوقت أمراً متقبلاً. كيلينيتي _ان جاز القول _ أصبحت دائمة. لقد كان مروعاً. ولكنه كان خياراً بين هذا وبين المشنقة.

واصلت الشرب بكثرة. في إحدى اليالي وبعد عدة كؤوس ذهبت إلى النادي للعب جولة من السنوكر. هذا النادي كان في الحقيقة أحد أسباب مرارة كيلي الموجهة نحوي. لقد إنضممت له بدون أن أكون على علم بأن كيلي كان عضواً فيه. استياءه كان بلا حدود. لقد ظن اني كنت أراقبه، واسجل ملاحظات عن الإهتمام الذي يبديه نحو الأعضاء الإناث.

في هذه المناسبة كدت أرتكب غلطة كارثية. انها حقيقة بسيطة وهي اني بارع في لعبة السنوكر، بسهولة افضل لاعب في ذلك النادي. عندما كنت اراقب اللعب بينما انتظر دوري على الطاولة. فجأة أدركت ان كيلي لم يلعب السنوكر من قبل على الإطلاق. للحظات سرى عرق بارد على جبين كيلي من ضيق الموقف. ذهبت إلى البار. هناك، سيدة ثرثارة (والتي ظنت ان محادثتها المهذارة كانت مقابلاً عادلاً لكأس). بدأت تتحدث الي، ذكرت الغياب الطويل لشخصية السيد اللطيف مورفي خاصتي، قالت بأنه اُفتقد كثيرا في غرفة السنوكر. كنت أشعر بالحر والإحراج، ذهبت للبيت، بيت كيلي بالطبع.

ليس إحراجاً، ولكن إحساساً جدياً بالخطر كان هو الجزء التالي من مغامرتي. بعد ظهيرة احد الايام، اثنان من الغرباء العاديين دخلا الورشة، قائلين انهما يودان الدردشة معي قليلاً. عُرضت السجائر. وبالفعل كانا رجلي شرطة بملابس مدنية، يجريان بعض التحقيقات الروتينية. هذا الرجل مورفي قد تم الابلاغ عن اختفاءه من عدة أشخاص، هل لدي أي فكرة عن اين يمكن أن يكون؟ لا، على الإطلاق. اين رأيته آخر مرة؟ هل بدا متضايقاً لإزعاجه؟ لا، ولكنه كان من النوع المتهور. لقد وبخته مؤخراً على عمل سئ. في مناسبات مشابهة هدد بالرحيل والبحث عن عمل في إنجلترا. هل كنت انا نفسي بعيداً لعدة ايام؟ نعم كنت في كورك لعدة ايام، من أجل العمل نعم… نعم… بعض الأشخاص يفكرون في إنشاء متحف للتاريخ الطبيعي هناك، أشخاص تقنيون ومتعلمون _ ذلك النوع من الأشياء. اسلوب هؤلاء الرجال في الإستجواب اقلقني، ولكن كان جلياً انهم لا يشتبهون في الحقيقة وأنهم مهتمون بشكل أساسي بتتبع مورفي. ومع ذلك، كنت اعرف اني في خطر، بدون معرفة اي تهديد بالضبط ينبغي التحسب له. الويسكي ابهجني إلى حد ما. ثم حدث ذلك. المحققان عادا مجدداً وهذه المرة بصحبة رجلين آخرين بالزي الرسمي، اروني مذكرة تفتيش. لقد كان بالكاد إجراءً شكلياً، في كل حالات الاشخاص المفقودين.

لقد قاموا بالفعل بالبحث في أبحاث مورفي بدون أن يجدوا شيئاً مثيراً للإهتمام. لقد كانوا شديدي الأسف لإزعاجي خلال ساعات العمل. بعد عدة ايام قام السيدان المحترمان إياهما بالدخول ووضعي تحت الاعتقال بتهمة القتل المتعمد لمورفي، لنفسي. لقد اثبتوا التهمة بالأدلة المناسبة، مع كل الأدلة المتراكمة بشكل مؤلم، بالإضافة لباقيا العظام البشرية في الفرن. لقد حُكم علي بالشنق. حتى لو تمكنت الآن ما إثبات ان مورفي ما يزال حياً، عبر تقشير الجلد الملعون، ما الفائدة التي يمكن أن ترجى من ذلك؟ اين _سوف يسألون _كيلي؟.

هذه قصتي الغريبة والمأساوية. وانتهى بي المطاف بهذه الفكرة، إذا كنا كيلي وانا يجب أن نكون الاثنين قاتلين أو مقتولين، فربما من الأفضل أن اتقبل مصيري الحالي بروح فلسفية، وان اُقدَر في عقول العامة، كضحية لهذا القاتل المتوحش، كيلي، لقد كان قاتلاً بكل الاحوال.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *