الكاتب: محمد الهادي
كان الزمن سكونًا، والهواء يعلوه صدأ النسيان، حين دخلت بلاد السود عامها الألف بعد سقوط العروش. في أعالي الجبال، حيث تُقبّل الشمسُ جبينَ الأرض قبل أن تُرى في باقي الممالك، بدأت العلامات تُولد. في ليلةٍ مقمرة، تلألأت فيها السماء بثلاث نجمات لا تظهر إلا كل خمسمئة عام، صدحت في المدى أصوات النسوة الثلاث: حليمة بزغرودتها التي شقّت صخور الوديان، مهيرة بعصاها التي ارتجف لها الغيم، وأم الحسن بعينين لم تبكيا منذ موت المملكة. ومع كل صدى، ارتجف قلب الأرض كأنها تستعد لولادة قادمة من صلب الأساطير. في تلك الليلة، اجتمع الحكماء في المغارة القديمة عند مضيق بَهلول، حيث نقش القدماء عبارة بلغة اندثرت: إذا تلاقى ضوء الكسوف مع صوت الحرائر، فإن الملوك سيُبعثون من ظلام النسيان. وفي عمق الصمت، حيث لا يُسمع إلا أنين الأرض، انشقّ جبل الداكرور، وخرج منه ثلاثة فتية بعيون تشبه العصور القديمة: الأول كان يحمل رمحًا محفورًا عليه اسم سنار، والثاني درعًا منقوشًا بعبارة “كوش لا تموت”، والثالث تاجًا صغيرًا كُتب على حافته “توتو الساهر النائم”. فُتح باب الزمان، واندلعت منه رائحة الطمي القديم، ممزوجة بعبق البرقوق البري ونار الطقوس المنسية.
اندفع النيل فجأة باندفاعة لم تُر منذ عهد بعانخي، وتمايلت شواطئ البحر كأنها ترقص ترحيبًا بمواكب البعث. من الجنوب جاءت أصوات الطبول، ومن الغرب علت صيحات الفرسان على صهوات خيول مطعّمة بالحكمة والنار، ومن الشرق توهّجت شمس لم يرها أحد من قبل، ومن الشمال نزلت أسراب من الطير السود، تحمل راياتٍ مرقومة بنجمة من نار وأخرى من ذهب. انتشرت الكلمة على الألسنة، وتحوّلت إلى أناشيد. قالوا: لقد جاء زمن إبريلوس الذي وُعدنا به. وقالوا: ترهاقا ليس ميتًا، إنه عائد. وقالوا: ما ماتت كوش، بل كانت تنتظر صوت النساء. وفي معبد الرمال، أُقيمت أول شعلة لوحدة بلاد السود. رفع الفتى الذي يرتدي تاج توتو صوته، وقال: نحن جيل لا يُهزم… نحن أبناء الحكاية التي لم تُكتب بعد. وفي اليوم السادس من إبريلوس، حيث اكتملت دورة القمر، وسكنت الرياح كأنها تتنصّت لما سيُقال، اجتمعوا لأول مرة: ترهاقا، وهيكول، وتوتو، والخزين، والحرائر الثلاث. وقفوا على صخرة كرموك المطلة على ملتقى النيلين، ومَن نظر إليهم رآهم كأنهم آلهة الأساطير القديمة: أجسادهم من حجر، وأعينهم من جمر، وخطاهم من طمي الزمن الأول. ترهاقا، فارس العصور الضائعة، رمحه لا يخطئ، وعيناه تحملان آلاف الهزائم التي تحوّلت إلى عزيمة. هيكول، الدرع الحي، من نسل الملوك الأوائل، يحمل رايةً عليها عبارة: الوحدة أقوى من السيف. توتو، الفتى النائم منذ قرون، بعث من جديد، وهو يحمل ذاكرة كل الحروب التي لم تُكتب. الخزين، حامل سر الكتب المقدسة التي دفنها الكهنة قبل السقوط، صامت، يتحدث بلغة الأجداد، ويحفظ أسماء الأبطال في ذاكرته كأنها نُقشت على عظمه. أما النسوة الثلاث فقد صرن نذرًا حيًّا: حليمة تنفخ في أبواق النفير، مهيرة تكتب على جلود الأسود شعارات الثورة، أم الحسن تعلّم الأطفال كيف تصير الصرخة سهمًا. بدأ الزحف… من أقصى الجنوب، حيث جبل أماد، إلى شمال أرقين، جاب الخمسة ورفيقاتهم الأرض كريحٍ لا تُرى، تبث الوعي في الصدور. ما من قرية مرّوا بها إلا وتركت النار مشتعلة في القلوب، وما من مدينة دخلوها إلا وانشق عنها جدار الصمت. كانوا يقولون: الطاغية ستسقط، إنْ لم تسقط اليوم، فسقوطها مسألة وقت. وكان الناس يهمسون: ها قد عاد أبناء الشمس، ها قد عاد من ظننا أنهم خيال. لكن الحاكم، سيّد القصر المائل على ضفاف نهر الكدر، كان يسمع. وكان يخاف. أرسل جنوده في الليل، مقنّعين كالثعالب، إلى كل بقعة زارها الزاحفون. أسروا بعضًا من الأطفال الذين أنشدوا للثورة، وخطفوا شيخًا من نسل كنداكة، وسحبوا فتاة من نسل مهيرة، كانت ترسم على الجدران صور توتو وهو يلوّح بالتاج. وفي ممر سَفَرْد، وقع كمين خطير. فقد تمّت محاصرة فرقة من طلائع المتمرّدين – كانوا تلاميذ الخزين – وأُسروا مع كتبهم ومزاميرهم. حاولوا حرقها، لكن المطر سقط فجأة، كأنه يُعلن: لن تُطفأ نار الحكاية. وعندما بلغ الخبر مجلس الخمسة، ارتعدت جبال النوبة من الغضب الذي اجتاحهم. وقف توتو، وقد احمرّت عيناه، وقال بصوت سمعته الطيور والنمور والريح: لا نعود إلى الوراء. من يُؤسر منا يُسترد، ومن يسقط يُبعث، فالحكاية أقوى من زنازينكم. في الليلة نفسها، رسم هيكول على الأرض خريطة العودة، وقال للخزين: علينا أن نستردهم، وأن نُعلن الثورة الكبرى من قلب سجن الحاكم. وتقدّمت أم الحسن، وقطفت زهرة من تربة كجبار، ثم غرزتها في وشاحها، وقالت: إذا سقط الطاقية من فوق رأسه، فلن يجد رأسًا يرفعه من جديد.
اترك تعليقاً