أُسْطُورة مَدِينة[i]
قصة قصيرة للكاتب: عمر الصايم
يُحكَى ـ والعُهدة على السَّارد الأوَّلـ أنَّ الخرتيت لم تُولد مدينة بأجهزة داخلية مُكْتَملة، شأن المُدُن في بلاد الله المحظوظة، بل كانت توأما سِيَامِيا من قريتين يعبرهما نهرٌ خديج. يبدو شكل القريتين مترهلًا كبطن فرس النهر، إِلى الغرب منهما تظهرُ حَدَبَة صخرية متآكلة، يُسَمِّيها الرَّحَالة ـونادرًا ما يعبرونهاـ قرن الخرتيت. مُنذ مِئات السَّنوات وشعب الخرتيت يستقبلُ الغُرباء، ووفودَ القادمين عبر النهر، أَجْنَاسٌ يستهويها المكان برسمه البدائِيّ، واِنْتِخاب الطبيعة لفوضاه الجاذبة. في البدءِ يحاولُ الغرباءُ مُرَاوغة جَرْس الأرض، ومناخها شديد القسوة، ولكن سرعان ما يرضخون، وتستجيب أجسادهم وأدمغتهم لسطوة المكان؛ حتى لتدركهم الأبصارُ وكأنَّهم خراتيت كابرًا عن كابر. القريتان كانتا جنّة الله المدسوسة بين الأشجار، والملقاة تحتَ أقدام الشَّمسِ، تؤتيان أكلهما مِن سمك النَّهر، ثمر الغاب، وصيد البرين الوفير.. إذ ذاك لم يكن أهلها في حاجة إلى التكّسُّب، واِخْتِراع العملة؛ فلم تنشأْ بينهم حكومة، فقط يكتفون بتعاليم الأجداد، وأحكامهم البسيطة والنَّافِذَة.
تقولُ نبوءةُ العارف بالأحاجي، وعرَّاف القريتين: “إنَّ الخرتيت ستكبرُ حتّى يستفحلُ النَّاس على أزقتها، ستصير يومًا ما قِبلة المسافرين، مركز القيادة، وسُرَّة التِّجَارة.. حينئذٍ سيتطاول سُكّانها في البنيان، ولكنَّها ستظلُّ موبوءة بالأجواءِ الفظَّة، وأنانِيّة البشر. ستمرُّ بكوارثٍ ثلاث تتناوشها في كُلِّ قرن، حتَّى تحلُّ بها الكارثة الثالثة، تلك التي إذا عبرتْهَا ستكون صالحة لسُكْنَى البشر، ومثيرة لضجر الشعراء “.
في المائة الأولى من تاريخ أرض الخرتيت حَاقت بالنَّاس جائحةٌ، كأنَّها هبطت من السَّماء، يتلوى الإنسان منهم، وتلقائيًا يجلس القرفصاء، ويفرغ جوفه سطح التراب، في أحايين لا تصلُ مُفْرغات البطون إلى الأرض؛ فتبلل الأجساد، وتَرْسِمُ خرائط مُتَعَفِّنَة على الثِّياب. انتشرَ الذُّباب الأخضر يحملُ بين أجنحته داء الإسهال المائيّ، بدأ في القرية السفلى، عند عودة الصَّيادين من النَّهْرِ شعرَ أحدهم برغبة في إفراغ بطنه، قذف سوائلها تحت شجرة كثيفة الأغصان.. ظلَّ طوال ليلته يسهل بطنه حتَّى مات عند شروق الشمس. صار الموت يتخطَّف النَّاس، ولا يعرفون مِن أين يهبط عليهم. بعد عبور الكارثة بسنةٍ واحدة اكتشفَ بعضهم أنَّ القرية السفلى ظلّت تتحرّك للأعلى هربًا من الموت حتّى التحمتْ بشقيقتها، ولم تَعُد تفصل بينهما سوى مَقْبَرة صغيرة، يُزَعم أنَّها محروسة بالجن الأحمر. غِبّ كُلِّ كارثة كانت الخرتيت تخرجُ أقوى مِمَّا كانت، تُضَمِّد جراحَ شعبها المُكابِد، وتستأنف الحياة برغبةٍ أكيدة في البقاءِ؛ ولذلك شُوهِدَت بعد الوباء وهي أكثرُ اتِّساعًا، نهرها ممتلئٌ بالقوارب، وسهولها بالثمار.. تنتفخُ أوداج الشعب كثيرًا، كأنّما لا تنتظرهم نبوءات بكوارث قادماتٍ لا محالة.
في المائة سنة الثَّانية أرسل الغُزاةُ أجنادَهم إلى الممالك الجنوبِيّة، استظَلُّوا بأشجار قرية الخرتيت، ذاقوا ثمار نسائها المَبْذُولة، ومَذَاق أسماكِها النَّهْرِيّة.. عبروا مُبتهِجين لتدمير الأعداء الآمنين في ديارهم. بعد أنْ حقَّقُوا انتصارًا سهلًا عادوا بالغنائم، بالأسرى مصفَّدين، والسَّبَايا حبلاوات. أسسوا مملكة جديدة، تَخَيّروا أنْ تكون عاصمتها هي الخرتيت، وهكذا صنعت الصدفةُ وأيادي الغزاة مدينة مُنكَّرَة، ستنسى تاريخَها بأسرع ما يكون، سيكون عليها أن تتبرجَ كمدينة، وأن تسبل أستارها كقرية، ستنمو الطحالب على عتبات المنازل، وتنشر أسرارها على أسوار البساتين. ها هي تكبر كفتاةٍ مراهقة، تنمو أطرافها في غير تناسق، تتضخّم أنفها بما لا يتناسب مع فكيها، ولكنّها على أيّة حالٍ عاصمة، فيها تُحاك المؤامرات، ينامُ الزعماء آمنين، وتتفاوت الطبقات كأفحش ما يكون.
لم يقبلْ النَّهْرُ أنْ يظلَّ خديجًا، خاصة وقد كبَّلته الحكومة الأجنبِيّة بالسدود، ووضعتْ الجسور الحديدِيّة على شدقيه؛ فانتفضَ ليلًا والنَّاسُ في مخادعِهم، فاض بالتزامن مع مطرٍ غزير زرفته السماءُ.. ألقى بالقوارب عن صفحته، وقذف بالأسماك والتماسيح إلى الشوارع والأَزِقّة. اجتاح السيلُ مفاصلها الهشَّة، انبطحت البيوت الواطئة أرضًا، وتهشَّمت البنايات السامقة تحتَ ضرباتِ الموج الغاضب.. لم يستطع الشعب التقاط أنفاسه؛ ليفهم ما يحدثُ، مات نصف الأهالي وبقي النِّصْفُ يحاول نسيان ما حدثَ. بعد عقودٍ سيبتدع الخراتيت طريقة خاصة بهم في التقويم، فيذكرون أنّها سنة الفيضان الأكبر، وتلك سنة الإسهال الأعظم.
في المائة الثالثة يتهَيَّأُ الشعبُ تدريجِيًّا لأُمِّ الكوارث، يبدأ في داخلهم ميلاد الأمكنة، رؤية ملامحهم في محاذاة الأجنبِيّ، تبدو ثورتهم في الضجر من الأنساق الجديدة، ينتابهم حنين مُخزي إلى الفوضى الكسول، إلى القرية الكامنة في أعماقهم.. يرتفع الضَّجَر عاليًا حتّى يزعج الغزاة، يتكالب الطقس والتذمر وبوادر الثورة عليهم؛ فيرحلون حاملين أمتعتهم، ومخطوطات رديئة عن ذكرياتهم، وعن أنثروبولوجيا الخرتيت. في حفلٍ بهيج تسلَّمت الطلائع بلادها، وبقايا شوارع الغزاة وأفكارهم.
بعد سنوات قلائل من تقرير المصير، بدأت البثورُ تظهر على العاصمة، اختفتْ أفراسُ النَّهْر، ولم تَعُد الطيور تهتمُّ بمواسمها القديمة. امتلأتِ الشَّوارعُ بالمتسولين، باللصوص وأكياس النفايات، امتلأت البيوت بالجائعين والمترفين، ولم يَعُد الشعب يتوقع حلول الكارثة الثالثة، إِلَّا قلة منهم كانت تتحدَّثُ بها في السر، وتتوعد بها في العلن.. هكذا اِبْتَدَأ الحريق من أطرافٍ بعيدة، واِمْتَدَّ كَنَارٍ تسري على حبل حتَّى بلغ مَجْمَع القريتين. استيقظ الشعب في تكاسُلِهِ المعتاد، يُعِدُّ نفسه ليوم حافل بطرائق كسب العيش، ولكن فجأة دوى صوت الرصاص، توالى سقوط القذائف، وانتشار الجثث، وكأنَّ طيورًا أسقطت عليها حجارةً مِن السِّماء. أوَّل بَدْءِ الحريق كانت الغالبية منهم تعتقد أنَّها حربٌ قصيرةُ الأَمَدِ، ستنتهي كبرقٍ خاطف، وستعود الحياة إلى طابعها البائس. ظلَّتِ المدينة تحترقُ، وتخرج أوزارها للعلن، اِنْكَشَفَتْ سوءتها التي سترها الغزاة ذات يوم دونما قصد، وبانت وحشية مفرطة، لم يكن أشد المغنين اعتدادًا سيتخيَّل أنَّها ثاوية في تجاعيدِ النَّاس المكابدين، وقلوب اللطفاءِ. كُلَّما اشتدَّتْ وتيرةُ المعارك؛ هربَ الشعب أفواجًا نحو المصائر المجهولة، وفي غضون أسابيع باتت مدينة للقطط والأشباح، والمتقاتلين في بطون الأزقة.
يتوقَّع السَّارد ـوالعهدة على الناقدـ أنَّه وفِي غضون مائة عام أُخرى ستنهضُ الخرتيت من جديد، ستكون أَبْهَى صورةً، وأكثر حنانًا، ستحضنُ أحفاد الموتى بحبٍّ، وستكون هذه آخر كارثة يصنعها إنسانها، ويذكرها التَّاريخُ.. سيأتي زَمَنٌ يكتبُ معاصروه عن أسطورةِ الإله الخرتيت، إله التَّأْسِيسِ المتين، الذي عشقتْه عشتار، نديم باخوس، مَحَطّ البركاتِ وهازم آلهة الإغريق.
تقدمة للمختارات الأدبية
تم الجمع والإختيار للنصوص بتاريخ 27 سبتمبر 2023م – اختيار وتقديم مأمون الجاك
تاريخ نشر القصة القصيرة 9 يونيو 2023م / مداميك
اترك تعليقاً