أشواك ووردة

·

·

,

خدر مؤلم استيقظ منه آدم مفزوعاً وأجد إحدى ساقيه ترقد على بعد أمتار منه، تعرف عليها بعد أن فتح فلاش هاتفه، الدماء هادرة، تعرق جبينه، لم يقوَ على الصراخ ولا الفرار بما تبقى له من أعضاء ونفس جسورة.

احتطنته أخته وبكت، حملوه في درداقة، الكلاب تنبح في هياج، أشارت عقارب الساعة إلى الواحدة والنصف ظهراً، سمعت دقاتها من ساعة يدوية تحيط بمعصم آدم، يراقب بها بزوق الفجر في سماء أبو جبيهة، جنوب كردفان، كثيفة الخضرة، غزت سماءها مسيرات قتالية كعيون رجل غضوب، ازدادت حدة النزيف، عانق بصره السماء والهاجرة مشتدة، نطق شهادة الإسلام عالية، بدأ وكأنه كابتن فريق في أيامه الأولى، كانت آخر كلمات راسخة أسدلي بها الستار عن مسرحية حياته، خطها بالصبر والصلاة وابتسامة فاترة قرب مخبزه الآلي.

أفك ابنه اليافع أزرار قميصه دون أي تعابير، غطى على الوجه المحتضر لتوه، وادر درداقته، عادا إدراجه، شفتاه تحركتا بدأ كأنما يردد طلسماً، يداه مرتعشتان، استقبله الحي بأكمله، بعضهم يهز رأسه والبعض الآخر غادر دون أي تعليق.

خطب في الجمع المتنوع جاره عز الدين قائلاً والدموع تتقاذف من حفرة عيناه: “يا ناس هوووي، آدم الكلس مات، والبركة في ولده وفيكم، إلا الحرب عوجة، اتربت في بيوتنا، طبعها شين ورحمها عقيم”.

ختم خطابه المقتصب قائلاً: “الفاتحة”، أكمل قراءتها خلال ثوانٍ، ردت أصوات رقيقة إلى متوسطة الغلظة، وآخر حاد: “آمين”، وآدم لا يزال على النقالة.

أشرقت الشمس في كدر، تعوض عارض مظلم “ضحوي”، وسرعان ما تسترسل الإشعاع مع تيارات هواء رطبة وأصوات هتاف صبيان يتقاذفون كرة قدم ممتلئ بالهواء، يحدث صوت ارطامها بأقدام سعيد صوتاً وسط حماس المشجعين.

سعيد ود آدم غزف بالكرة في شباك مهترئة بتركز عالٍ والقليل من المراوغة، هتفوا “قون_قون”، حمله على أكتافهم، مشوا به قاصدين به شوارع المدينة الرئيسة، سمع همسات النسوة: “هييي ده ولد آدم”.

تدحرجت دمعة ساخنة بنشوة النصر ومرارة الفقدان والهزيمة، قلبه مهترئ كحذائه، حول الساحة، جارهم حاج عز الدين الجو إلى خطاب سياسي يعرف مغذاه في كنانة نفسه، لكنه لا يدرك بأنه يمارس السياسة قولاً وفعلاً بطريقته الخاصة.

قال بصوت متحشرج حاد: “سمح السلام ألا مشيتنا بروكسل ضريبة وما ضريبة”، سألت إحدى النساء شاخت قبل أوانها حاجة فاطمة جدة سعيد: “دحين بروكسل بتمشي بالكراع؟”.

ضحك الحاضرون وصفقوا من فراسة وسذاجة الجدة، قال عز الدين متبخراً في المساحة التي كبرت معدل من وضعية العمامة على رأسه ومترحن في عظمة مخيفة بحذاء من جلد النمر الأصلي حيث اشتراه من أحد أسفاره من غرب السودان.

قال بلغة مثقفين: “كرش الفيل وخرطرمه، لو نظرنا إلى الموضوع من ناحية براغماتية نفعية، المشي أرحب لأجل عيون الصغار والكبار والبهائم، عشان تقف حمى الضنك، نطلع الدهب”.

قالت إحدى النسوة: “سجمي دهب منو”، لم يضحك أحد سوى سعيد الذي يتسلق كتف أحدهم، ابتسم عز الدين في ازدراء وأردف: “لأجل غدٍ ولأجل التاريخ ولأجل الإنسانية ومن أجل دم آدم الكلس”.

وسط صفقات حارة اصطرت عينها جندي ممزق الزي عليه علامات قتال شرس، سحب إحدى النسوة من ثيابها، تحتها يستمر طفل في الرابعة من عمره، تلاشى جسد الطفل في لقاء حميم بطولي.

عاد عز الدين إلى التعليق، فهو رجل يطل في مواقف ويقتصر في أخرى، يجب أن توفق لتنعم الحبيبة بالدفء، لأني أرى ما لا ترون.

نزل سعيد وبدأ الرقص على نحو صباني، غنى الجميع أغنية يحفظها جل السودانيين تقول إحدى أبياتها: “القمرية تصدح تسريح دبابة والقطر القبيل يمشي ويشق الغابة”.

تبسمت فتاة تعمل في قطاع شبكات الاتصالات تدعى ريريري، توسطت الحلقة ورقصت رقصة صوفية درويش، لا يبالي، غطت حاجة فاطمة عينها وبكت، احتضنتها المدعوة ريريري وأقنعتها بأن الأمور تحت السيطرة، لم توفق عن البكاء، عندها أدركت مهندستهم حتمية البكاء متأكدة بعبارة “كر علي”.

بمشهد العناق بدأ العام الجديد بالدخول، تنهدت عندما أدركت بأن عيد ميلادها يقع جعبة شهر أبريل من العام القادم، مسحت دمعها وراحت تفكر في الاحتفال به في أرض النيلين.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *