أسطورة أكلي لحوم البشر والمتحوِّلون في ثقافة الدينكا

·

·

, ,

أسطورة أكلي لحوم البشر والمتحوِّلون في ثقافة الدينكا: قراءة أنثروبولوجية في حكاية “أجانج وعروسته المتحولةAjang and His Lioness-Bride “*

إعداد: بول مثيانق

تحليل مُستنِد إلى عمل فرنسيس دينق: “الحكايات الشعبية من قبيلة الدينكا” 

أسطورة آكلي لحوم البشر في جنوب السودان تُعد من القصص التي تتناقلها الألسن في بعض المجتمعات المحلية، وغالبًا ما ترتبط بالفولكلور الشعبي والخرافات القديمة التي تحمل رسائل تحذيرية أو رمزية، أكثر من كونها أحداثًا حقيقية موثقة.

إذ أن إسطورة المتحولون  عند “الدينكا” من بين الروايات الشعبية التي تناقلتها البعض عن أفرادًا أو كائنات يمتلكون القدرة على التحول من شكل إلى آخر، وفي بعض الروايات يتم ارتباطهم بفعل أكل لحوم البشر، و يمتلكون قدرات خارقة أو يخفون هويتهم بين الناس، ويُقال إنهم ينشطون في الليل، ويتغذون على الأطفال أو المسافرين.

هذه الأسطورة، مثل غيرها من السرديات الشفوية، لا تُقرأ كسرد تاريخي، بل كفنٍّ أدبيٍّ يعتمد على الانزياح اللغوي والمجازي لترميز قيمٍ أخلاقية واجتماعية. فـ”المتحوِّلون” أو “أكلة البشر” هنا ليسوا كائناتٍ ماديةً بقدر ما هم تجسيدٌ لمخاوف جماعية من الغريب، أو الانحراف عن المألوف، أو انهيار التوازن المجتمعي، و تتشابك في تراث شعب الدينكا، حكاياتٌ تتناقلُها الأجيال كمرايا تعكس رؤيتهم للعالم، وتُجسِّد صراعاتهم الوجودية بين الخير والشر، البشرِي والخارق. ومن بين هذه الحكايات، تبرز أسطورة؛

 *”أجانج وعروسته أشول المتحوِّلة”*

هَذِهِ حَادِثَةٌ قَدِيمَةٌ.

كَانَ يَوجَدُ رَجُلٌ يُدْعَى “أَجَانْج، ابْنُ تُونْج”. كَانَ فَاتِنَ الْحُسْنِ، فَاتِنًا بِشَكْلٍ مُذْهِل! وَكَانَ الْبِكْرَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا أُخْتٌ وَاحِدَةٌ تُسَمَّى “أَيَاك”. كَانُوا يَعِيشُونَ مَعًا فِي الْبَيْتِ. ذَاتَ يَوْمٍ، ذَهَبَ مَعَ أُخْتِهِ إِلَى مُعَسْكَرِ المَوَاشِي. 

وَصَلَ صِيتُ جَمَالِ أَجَانْج إِلَى أَقَاصِي الْأَرْضِ حَتَّى أَصَابَ النَّاسَ بِالْهَيْبَةِ. وَسَمِعَتْ بِهِ فَتَاةٌ مُتحوٍلةَ تُدْعَى “أَشُول”. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِهِ، تَرَكَتْ دَارَهَا وَهِيَ تَقُولُ: “يَجِبُ أَنْ أَرَى هَذَا أَجَانْج، الَّذِي بَلَغَ جَمَالُهُ مَبْلَغَ الْأَسَاطِيرِ!”. 

وَأَخَذَتْ تُسَافِرُ، تَأْسِرُ مَنْ تَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ. كُلُّ مَنْ تُمْسِكُ بِهِ يَقُولُ لَهَا: “حَتَّى لَوْ أَكَلْتِنِي، فَمَاذَا؟ هَلْ سَتَأْكُلِينَ أَجَانْج؟ لَوْ أَكَلْتِ أَجَانْج، لَحَلَّتْ الْكَارِثَةُ بِقَبِيلَتِنَا، أَمَّا أَنَا فَلَا خَطَرَ عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَكَلْتِنِي!”. 

وَكَانَتْ تَسْأَلُ ضَحَايَاهَا: “كَيْفَ هُوَ هَذَا أَجَانْج؟” 

فَيَرُدُّونَ: “أَجَانْج رَجُلٌ فَاتِنٌ لِدَرَجَةٍ تَخْتَلُّ لَهَا الْعُقُولُ. حَتَّى فِي أَشْدِّ الرَّقَصَاتِ ازْدِحَامًا، لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ. وَإِذَا غَابَ عَنْ رَقْصَةٍ، يَشْعُرُ الْجَمِيعُ بِفَقْدِهِ، فَتَخْفِقُ تِلْكَ الرَّقْصَةُ. فَأَنَا بِالْقَارِسَةِ إِلَى جَانِبِهِ لَا أُذْكَر!”. 

فَتَأْكُلُهُ وَتَمْضِي. وَهَكَذَا أَفْنَتْ كَثِيرِينَ فِي رِحْلَتِهَا عَبْرَ الْبِلَادِ. وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَتْ مِنْ قَرْيَةِ أَجَانْج، صَادَفَتْ طِفْلًا فَأَمْسَكَتْهُ. فَقَالَ لَهَا الطِّفْلُ: “إِنْ أَكَلْتِنِي، هَلْ سَتَشْبَعِينَ بَدَلًا عَنْ أَجَانْج؟” 

فَسَأَلَتْهُ: “مَا الْخَاصَّةُ فِي هَذَا أَجَانْج؟” 

فَأَجَابَ: “أَجَانْج رَجُلٌ عَظِيمُ الْجَمَالِ، حَتَّى إِنَّ مَوْتَهُ لَيَجْعَلُ الشَّمْسَ تَغِيبُ عَنْ قَبِيلَتِنَا إِلَى الْأَبَدِ!”. 

يَكُونُ ذَلِكَ نَذِيرًا، أَمَّا إِذَا مُتُّ أَنَا فَلَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ.” 

** 

تبدأ الحكاية بوصف “أجانج”، الفتى الوسيم الذي يخطف جمالُه الأبصار، فيصبح محطَّ أنظار “أشول” – المرأة المتحوِّلة التي تجوب الأرض باحثةً عن ضحاياها. هنا، يُقدِّم السرد ثنائيةً بين الجمال المثالي (أجانج) والقبح المُخاتل (أشول)، حيث ترمز الأولى إلى نقاء المجتمع وتماسكه، بينما تجسِّد الثانية قوى الفناء والغزو الخارجي، حيث يُصبح الفردُ رمزًا للجماعة، وحمايته واجبًا وجوديًّا. 

مَشَتْ وَمَشَتْ، حَتَّى وَجَدَتْ أَطْفَالًا يَرْعَوْنَ الْغَنَمَ وَالْمَاعِزَ. فَأَمْسَكَتْ بِأَحَدِهِمْ. قَالَ الْوَلَدُ نَفْسَ الْكَلَامِ: “حَتَّى لَوْ أَكَلْتِنِي، هَلْ سَتَأْكُلِينَ أَجَانْج؟” 

“أَيْنَ قَرْيَةُ أَجَانْج؟” سَأَلَتِ الْوَلَدَ. 

“طَرِيقُهَا طَوِيلٌ أَمَامَكِ،” أَجَابَ الطِّفْلُ. 

وَاظَبَتْ عَلَى مُهَاجَمَةِ الْأَطْفَالِ وَسَمَاعِ نَفْسِ الْجَوَابِ طَوَالَ يَوْمٍ كَامِلٍ. أَمْسَكَتْ بِكَثِيرِينَ حَتَّى تَوَقَّفَتْ عَنْ أَكْلِهِمْ. كَانَتْ تُحَادِثُهُمْ فَقَطْ ثُمَّ تَتْرُكُهُمْ يَمْضُونَ. أَخِيرًا، أَمْسَكَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ قُرْبَ قَرْيَةِ أَجَانْج. قَالَ الْوَلَدُ نَفْسَ الْكَلَامِ: “حَتَّى لَوْ أَكَلْتِنِي، لَنْ تَأْكُلِي أَجَانْج.” 

“لَنْ آكُلَكَ إِنْ دَلَلْتَنِي عَلَى قَرْيَةِ أَجَانْج،” قَالَتِ المُتحَوِلةَ. 

“أَتَعْنِينَ أَنَّنِي أُرِيكِ قَرْيَتَهُ لِتَذْهَبِي وَتَأْكُلِيهِ؟” 

“بَالطَّبْعِ لَا،” أَجَابَتِ المُتحَوِلةَ. “لَنْ آكُلَ أَجَانْج أَيْضًا. هَلْ يَجْرُؤُ أَحَدٌ عَلَى أَكْلِ رَجُلٍ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ، مَهْمَا كَانَ قَوِيًّا كَالمُتحّوِل؟” 

“إِذًا،” قَالَ الْوَلَدُ، “هَذِهِ قَرْيَةُ أَجَانْج، تِلْكَ الَّتِي بِهَذَا الْعَمُودِ الْمَزْخَرَفِ الْعَالِي.” 

“رَائِعٌ،” قَالَتِ المُتحَوِلةَ  وَأَسْرَعَتْ نَحْوَ الْقَرْيَةِ. 

اسْتُقْبِلَتْ بِحَفَاوَةٍ وَأُجْلِسَتْ كَضَيْفَةٍ. جَاءَ أَجَانْج وَحَيَّاهَا. ثُمَّ سَأَلَهَا: “مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟” 

“جِئْتُ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ جِدًّا،” أَجَابَتْ. 

“أَيْنَ تِلْكَ؟” سَأَلَ أَجَانْج.

“بِلَادِي بَعِيدَةٌ لِلْغَايَةِ،” قَالَتِ المُتحَوِلةَ. “صِيتُكَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِي إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ. أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ امْرَأَةً فِي هَذَا الْبَيْتِ!” 

“هَلْ تُرِيدِينَ ذَلِكَ؟” قَالَ أَجَانْج. 

“نَعَمْ، بِشَدَّةٍ،” ردتْ. 

**

في رحلة أشول الطويلة، تواجه ضحاياها بسؤالٍ مكرر: “هل يستحق أجانج أن يُضحَّى به؟”، فيردون بأن موته سيكون نهايةً لعالمهم، بينما موتهم هم مجرد حدثٍ عابر. هذا الحوار لا يعكس تقديسَ الشخصية فحسب، بل يُشير إلى ثقافة التضحية الجماعية في مواجهة الخطر الخارجي، حيث يُصبح الفردُ رمزًا للجماعة، وحمايته واجبًا وجوديًّا.

قال أجانج: “لا أعتقد أن هذا ممكن!” 

ردت أشول: “ولم لا، وقد رغبتُ كثيرًا في أن أكون زوجتك؟” 

أصر أجانج: “لن أستسلم لرغبتك. كان الأجدر بي أن أراك أولاً ثم ألحقك إلى أرضك البعيدة. أما أن تطلبيني بنفسك، فهذا غير لائق.” 

لكن أشول ظلت تتوسل: “كيف ترفضني وقد جئتُ كل هذا الطريق لسمعتك؟ أرجوك، دعني أكون زوجتك.” 

طال الجدال بينهما حتى تدخل آخرون ونصحوا أجانج قائلين:  “يجب تكريم الرغبة التي جعلتها تغادر أرضًا بعيدة كهذه. كيف تفكر حتى في طردها؟ عليك أن تقبل بها.” 

استسلم أجانج. 

بعد فترة، اقترحت أشول المتحولة زيارة أقاربها ثم العودة للعيش في بيت الزوجية. وافق أجانج. غادرا ليلاً دون إخبار أحدٍ بوجهتهما. مشَيا؛ مشَيا؛ مشَيا حتى وصلا إلى موطنها. 

لم تترك في المنزل سوى أمها. طلبت من أمها إحضار أطباق وملاعق جديدة لأجانج. أُعدت له وجبة خاصة. أكلا، ثم ناما. قضيا يومًا آخر وناما مجددًا. في الليلة التالية، انقضت أشول المتحولة على أجانج، كسرت رقبته وقتلته. تذوقت دمه، وأجلست جثته مستندة إلى الحائط. لم تأكل من لحمه، فقط ارتوت من دمه. 

     **

 عندما تصل أشول إلى قرية أجانج متخفيةً في صورة امرأةٍ جميلة، تُكرِّس الأسطورة فكرةَ “القناع” الذي يُخفي جوهرًا مفترسًا. فالقدرة على التحوُّل هنا ليست سحرًا، بل استعارةً لخداع الغريب الذي يندمج في المجتمع لينقضَّ عليه من الداخل. وهذا يذكِّر بأساطير “المستذئبين” في الثقافات العالمية، حيث يُعبِّر التحوُّل عن صراع الهوية والانتماء، إذ تُعبِّر الأسطورة عن ريبة المجتمعات المغلوبة من “الآخر”، خاصة في مجتمعات الرعي كالدينكا، حيث الترحالُ يزيد من مخاطر الغزو. فـ”أشول” ليست آكلةَ لحومٍ بقدر ما هي تجسيدٌ لخوفٍ تاريخي من القبائل المتنافسة أو الأوبئة المجهولة. 

**

قالت أمها لها: “أشول، يا ابنتي، تعلمين أن أجانج ليس رجلاً عاديًا. حين يفتقده قومه، سيأتون وستُلقين في ورطة. لا يُخطِّط أحد لهذا العُمر ليخدع رجلاً ويقتله. لقد ارتكبتِ خطأً جسيمًا. كان عليكِ أن تُبقيه زوجًا كما اتفقتما.” 

حاولت أشول تهدئة أمها: “كل شيء سيكون على ما يرام يا أمي، لن يحدث شيء.” 

في غضون ذلك، استنتج أهل قرية أجانج أن أشول هي من أخذته. فانطلقوا في جماعة كبيرة. مشَوا؛ مشَوا؛ مشَوا. وبعد أيام طويلة، وصلوا إلى بيت أشول. 

**

ربما يوجد في ثقافة الدينكا اعتقاد بوجود كائنات روحية وقوى خارقة، وهي جزء من تفسير الظواهر الطبيعية والظروف الاجتماعية المختلفة، في هذا السياق، تظهر بعض الشخصيات أو الحكايات التي ترتبط بقدرات خارقة أو تحول بين أشكال مادية وروحية.

من هنا يأتي تصوير الآخر المختلف كتهديد!

عِنْدَ وُصُولِهِمْ، لَمْ يَجِدُوا أَشُولَ حَاضِرَةً. كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ لِلصَّيْدِ. لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ إِلَّا أُمُّهَا. وَكَانَ أَجَانْجَ مَا زَالَ جَالِسًا مَيِّتًا دَاخِلَ الْكُوخِ، ظَهْرُهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجِدَارِ. 

عِنْدَمَا رَأَتْ أُمُّ أَشُولَ الْقَادِمِينَ، تَقَدَّمَتْ لِتُحَيِّيَهُمْ. لَكِنَّهُمْ رَفَضُوا، قَائِلِينَ: “أَحْضِرِي لَنَا أَجَانْجَ أَوَّلًا، ثُمَّ عُودِي كَصَدِيقَةٍ.” 

وَقَفَتْ أُمُّ أَشُولَ وَبَدَأَتْ تُرَنِّمُ لِابْنَتِهَا، الَّتِي كَانَتْ مَا زَالَتْ غَائِبَةً: 

“يَا أَشُولَ، يَا ابْنَتِي، 

هَذَا مَا كُنْتِ تُرِيدِينَ. 

يَا بُنَيَّتِي، 

سَأُعْطِيكِ جِلْدًا لِلسُّرَى. 

يَا بُنَيَّتِي، سَأُعْطِيكِ عَلَى الْأَقَلِّ جِلْدًا صَغِيرًا. 

أَجَانْجَ، ابْنَ تُونْجَ، قَدْ اِخْتَفَى، 

ذَهَبَ إِلَى غَيَابٍ لَا عَوْدَةَ فِيهِ. 

أَصْلِحِيهِ، وَأَتْقِنِي عَمَلَكِ يَا بُنَيَّتِي، 

أَعِيدِيهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. 

يَا أَشُولَ، الْآنَ عَلِمْتِ ثَمَرَةَ الشَّرِّ.” 

فِي الْبِدَايَةِ، لَمْ تَسْمَعْ أَشُولُ أُغْنِيَةَ أُمِّهَا. فَأَعَادَتِ الْأُمُّ الْغِنَاءَ. هَذِهِ الْمَرَّةَ سَمِعَتْهَا أَشُولُ وَأَسْرَعَتْ إِلَى الْبَيْتِ. وَبَيْنَمَا كَانَتْ تَقْتَرِبُ، رَنَّمَتْ أُمُّهَا مَرَّةً أُخْرَى. عِنْدَ وُصُولِهَا، سَأَلَهَا الرِّجَالُ: “أَشُولَ، هَلْ جِئْتِ حَقًّا؟” 

“نَعَمْ،” قَالَتْ. 

“أَيْنَ أَجَانْجَ؟” سَأَلُوا. 

“هُوَ دَاخِلَ الْكُوخِ،” أَجَابَتْ. 

“هَلْ هُوَ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ؟” سَأَلُوا. 

“هُوَ مَيِّتٌ،” أَجَابَتْ. 

“إِذًا اِذْهَبِي إِلَى الْكُوخِ وَأَعِيدِيهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِنَرْجِعَ مَعَهُ.” 

ذَهَبَتْ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَدْخُلِ الْكُوخَ الَّذِي فِيهِ أَجَانْجَ. 

“يَا أَشُولَ،” قَالَ الرِّجَالُ بِعَدَمِ صَبْرٍ، “إِنْ كُنْتِ تُرِيدِينَ الْخَيْرَ وَلَا تُرِيدِينَ الشَّرَّ، فَأَسْرِعِي وَأَصْلِحِي أَجَانْجَ! إِنْ لَمْ تَفْعَلِي، لَنْ نَغَادِرَ إِلَّا بَعْدَ قَتْلِكِ.” 

فَدَخَلَتِ الْكُوخَ وَشَغَلَتْ نَفْسَهَا بِأَجَانْجَ. عَمِلَتْ وَعَمِلَتْ، حَتَّى اسْتَطَاعَ أَجَانْجَ أَنْ يَقِفَ. لَكِنْ عِنْدَمَا خَرَجَ مِنَ الْكُوخِ وَحَاوَلَ الْمَشْيَ، كَانَ يَعْرُجُ. 

قَالُوا لَهَا: “خُذِيهِ إِلَى دَاخِلِ الْكُوخِ وَأَصْلِحِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، عندما أخذتهِ منّا، لم يكن يعرج. ولم يكن قبيحًا.” 

فعادت وعملت عليه مرة أخرى. وعندما ظهر مجددًا، كانت إحدى عينيه مُعلَّمة. طلبوا منها إعادة عينيه إلى ما كانتا عليه. فعادت وعملت عليه مرة أخرى. ثم خرج وقد أُصلِح بالكامل. 

قالوا: “كان أجانج يسبق الريح.” فطالبوها: “اجعليه يجرِي مع الريح؛ لنرى إن كان قد استعاد سرعته حقًا.” 

فجعلته يجرِي مع الريح، فكانت سرعته مساوية لسرعتها بل تفوقها. 

قالوا: “الآن عاد كما كان.” 

لكنهم لم يتركوا أشول في النهاية؛ بل قتلوها وأمها، وأحرقوهما في كوخهما. 

ثم أخذوا أجانج وعادوا إلى قريتهم. عند الوصول، دُقَّت الطبول ودُعي إلى الرقص. فرقص الناس كثيرًا. 

قال والد أجانج: “ابني وحيدٌ. إن لم يتزوج وحدث خطأٌ مرة أخرى، قد يموت دون أن يترك ولدًا أرى صورته من خلاله.” فوجد فتاةً لابنه. تزوَّج أجانج وعاشا في سعادة كبيرة.    

*من الملاحظ أن هذه الرواية مشحونة بعناصر رمزية وخرافية أكثر من كونها وصفاً تاريخياً دقيقاً، كنسيجٍ تلامس هواجسَ المجتمع وتُحذِّر من اختراقِ محظوراته. 

عندما تقتل أشول أجانج، لا تنتهي القصة بانتقامٍ تقليدي، بل بفعلٍ طقسيٍّ معقَّد: يُجبر أهل القرية أشولَ على إحياء أجانج عبر سلسلة محاولات فاشلة، كأن يعرج أو تفقد عينُه بريقه، حتى يعود كاملًا. هنا، يُعيد الطقسُ بناءَ النظام الاجتماعي المُختل، فـ”الإحياء” ليس معجزةً، بل استعارةً لاستعادة التوازن بعد اختراق المحظور. 

لكن النهاية لا تُكافئ أشول بالغفران، بل بإحراقها هي وأمها، كتطهيرٍ للمكان من شرورهما.

 وهذا يُجسِّد ثنائيةَ التضحية/العقاب في الثقافات التقليدية، حيث يُطهَّر المجتمعُ بذبح “كبش الفداء” الذي يُمثِّل تهديدًا لهُويته.

و إن تركيز الحكاية على جمال أجانج المثالي يُذكِّر بأساطير “البطل الإلهي” في الثقافات الأفريقية، حيث الجسدُ الفردي مرآةٌ لجسد الجماعة. فمقتله ليس فقدان شخص، بل انهيار عالمٍ بأكمله، مما يبرر العنفَ المتبادل في الدفاع عنه. 

أما اختيار أنثى كمتحوِّلةٍ شريرة قد يعكس مخاوفَ أبويةً من قوة المرأة الجنسية أو السحرية، خاصة في مجتمعات تُسيطر عليها الذكورة كالدينكا. فـ”أشول” تتحوَّل من عروسٍ إلى قاتلة، كتعبيرٍ عن ثنائية المرأة: مصدر الحياة والموت. 

إن الحفاظ على هذه الحكاية عبر الأجيال يؤكد دور السرد الشفوي كأداةٍ لترسيخ الهوية. فكلُّ روايةٍ جديدةٍ هي إعادةُ تشكيل للأسطورة بما يتوافق مع تحديات العصر، مما يجعلها كائنًا حيًّا متطورًا.

ومع ذلك، يجب التأكيد على أن هذه القصص غالبًا ما تُستخدم لتفسير سلوكيات اجتماعية غير مقبولة أو كوسيلة لتحذير المجتمع من تصرفات معينة، يُفهم منها أن ارتكاب أفعال خارجة عن المألوف سيُترتب عليه نتيجة كارثية تتجاوز حدود الإنسانية.

إذاً هل هناك حقائق وراء الأسطورة؟

  السؤال عن “حقيقة” الأسطورة يُعيدنا إلى الجدل الأنثروبولوجي القديم: هل الأساطير انعكاسٌ لتجارب واقعية، أم أنها بنياتٌ رمزيةٌ خالصة؟ في حالة الدينكا، لا تُشير الأدلة التاريخية و الأكاديمية أو الأثرية أو بحثية موثقة إلى ممارساتٍ منهجية لأكل البشر، بل يُشير معظم المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا إلى أن هذه القصص جزء من تراث الخيال والأساطير الشعبية، التي تعكس رموزاً اجتماعية أو تحذيرات أخلاقية أكثر منها وقائع تاريخية ملموسة. لكن هذا لا ينفي أن الأسطورة قد تكون مُستوحاةً من أحداثٍ فرديةٍ مُبالغٍ فيها، أو صراعاتٍ مع جماعاتٍ مجاورة اُتُّهمت بالتهميش أو السحر. 

مع المراعاة أيضاً أن بعض الروايات قد تم تحريفها أو إعادة تفسيرها عبر الزمن، سواء من قبل المفكرين الاستعماريين أو من قبل وسائل الإعلام، مما أضفى عليها طابعًا من الإثارة أو مبالغ فيه. لذا فإن تناولها يتطلب الحذر والتمييز بين الموروث الشعبي والحقائق المثبتة.

الأهم هو أن الأسطورة، بغض النظر عن أصلها، تعمل كـ**أداة ثقافية** فاعلة: فهي تحرس حدود المجتمع الأخلاقية، وتُعيد إنتاج قيمه عبر تحويل المخاوف.


رد واحد على “أسطورة أكلي لحوم البشر والمتحوِّلون في ثقافة الدينكا”
  1. الصورة الرمزية لـ ميوين ايو

    خرافات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *