نمارق الجاك
في بلد مزقته الحرب، وقُضِم أبناءه كقضمة التفاحة، وتلاشى حلم الوطن كدفقة ماء، تناحرت الرؤى، وتعفنت الضمائر والقلوب، وعجزت النخب الثقافية بالدرجة الأولى عن صنع المشترك والجماعي متجاوزةً القيم الذاتية والفردية، لكنها لم تفعل فوقعت الواقعة.
نشر نشطاء الإعلام وروجوا لخطاب كراهية مقيت، كادت البلاد حينها أن تتفتت، لكنه مصير غير مستبعد في ظل تنامي خطاب الحرب وفتور الخطاب المضاد لها.
لقد ساهم الإعلام الرسمي في ترسيخ العسكرة والاقتتال من خلال شعارات “بل بس” في حرب الكل فيها خاسر لا محالة، لذا وجب أن يتحرر الإعلام من قبضة السلطة، وهذه مهمة منظمات المجتمع المدني التي تستوعب البنى الأهلية وتساهم في دمج أفراد المجتمع ونشر ثقافة السلام.
نادَى الدكتور جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، بالوحدة والانفكاك من وهم العروبة، والسير في خط “جميعنا سودانيون”، إذ كان زعيمًا ثوريًا مؤمنًا بعدله، توقف رحم الشعب عن إنجاب كهذا الرجل في ظل الطيش الجماعي وجهل الوزراء والإداريين بطبيعة وخصوصية كل مدينة سودانية.
أظهر صفوة المجتمع اختيارهم للقبيلة وللمصالح الشخصية، وتم استغلالهم كأداة من قبل داعمي الحرب. نحتاج إلى نخب لا تتماهى مع السلطة، بل تسعى إلى تعديل مسارها، حيث القيادات السياسية إما تقليدية أسرية صفوية، أو صاعدة بلا رصيد أو رؤية.
اتفق جل السودانيين، إن لم يكن كلهم، على أنه ليس هنالك مركز وهامش، بل حزب معين جاء باسم الدين فنهب وصنع إشكاليات عويصة، ركز التنمية على الخرطوم فعادت فوائدها على وجوه وجنرالات، وصُرفت أموال حليب الأطفال والأدوية على المسيرات ومضاداتها، وتوقفت الزراعة ورحلت المياه بأسماكها إلى القاهرة.
مشادات صبيانية بين قوى سياسية تنقسم على نفسها، تعادي نفسها وتطبق مثل “جلد ما جلدك جر فيهو الشوك”. تقع المسؤولية على عاتق كل مدرك لخطورة الفترة ومفصليتها، حيث قُتل مدنيون بعضهم لا يعرف ماذا تعني الإمبريالية أو البرلمان، بل يعيش في حدود يومه.
العسكر لديهم شهية مفتوحة للمزيد من الفترات الانتقالية والانفراد بالحكم، لكن الإلحاح عليهم في هذا التوقيت المزعج يؤدي إلى مزيد من الاحتقان والمشاجرات الكلامية، حيث إضافة رئيس وزراء بمثابة مقبلات وحلوى.
عدة جيوش وعدة آراء تؤمن شكليًا بمبدأ “نتفق نختلف”، زادت الطين بلة والمزايدة باستمرار، فتعكرت الأجواء وغدت الرؤية ضبابية. وبما أن السياسة متغيرات، فنحن ننتظر المستجدات دون أن نكون فواعل، فقط مستقبلات.
نحن أكثر وحدة من ذي قبل والشاهد على الأمر هو مواطن من الجزيرة يتكلم عن فرص توصيل مواد غذائية إغاثية ملحة، وعن صبر إنسان الفاشر على التجويع كسلاح حرب، كما صمدت كادوقلي وكثيرون عانوا من ويلات الحرب الهمجية. من يكتب التاريخ؟ وماذا تريد العدالة أن تقول؟ ماذا نريد بشكل جمعي محلي؟ لذلك هو الرهان. الأجيال القادمة هي من تفتح الرهانات المغلقة: رهان الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمشاركة الحقة.
اترك تعليقاً