“يجب أن يكون واضحًا لك كما هو لي – بصفتي مُتحمسًا لمستقبل القوات السودانية (الزنجية) وخصائصها القتالية – أن المرء يتوقع اكتساب قوة عسكرية هائلة لأي قوة عظمى تسيطر على السودان. كما نستخدم قواتنا الهندية للقتال خارج الهند، ستتمكن القوة المسيطرة على السودان من تجنيد جيش كبير من أفضل المقاتلين في العالم لاستخدامه خارج السودان. بالطبع هذا نظرٌ للمستقبل البعيد، لكنه نقطة لا يجب إغفالها عند النظر لمصير السودان النهائي. وسيكون من المؤسف السماح للآخرين بالدخول إلى السودان بينما اللعبة عمليًا في أيدينا.”
إف. آر. وينجيت إلى ج. ج. ليفرسون ٥ يناير ١٨٩٠م
بريطانيا الإستعمارية من تحرير العبيد إلى التجنيد القسري
بينما مال المؤرخون إلى تجاهل أو التقليل من مساهمات الجنود السودانيين، لم يفعل فرانسيس ريجينالد وينجيت ذلك أبدًا. لقد فهم أكثر من غيره الدور العسكري المهم الذي لعبوه في وادي النيل، والقدرة المحتملة لاستخدامهم عبر الإمبراطورية البريطانية. وبصرف النظر عن الأهمية المائية الاستراتيجية لأعالي النيل لبريطانيا فيما يتعلق بمصر وقناة السويس، رأى وينجيت ووزارة الحرب أن مناطق مثل بحر الغزال السوداني – التي وصفها اللورد سالزبوري بأنها “أرض تافهة” – تحتوي على “أعراق حربية” قد تكون مفيدة لحماية المصالح البريطانية في أفريقيا وخارجها، أو قد تستخدمها قوى منافسة لو تغير مصير السودان.
على أي حال، فكرة وجود جنود سودانيين في الجيش المصري – سواء كانوا مرتزقة أو عبيدًا أو “متطوعين” بلغة بريطانية ملتوية – لم تكن جديدة، ولم تكن حالة تحويل “مواد خام” إلى “منتج نهائي” كما ادعى دعاة الإمبراطورية. فلم تكن هناك أي “مواد خام” في هؤلاء المجندين، ولا أي جديد في سمعتهم الحربية أو وضعهم كعبيد عسكريين. فعلى الرغم من تأسيس الكتيبة السودانية “التاسعة” – الرائدة في الجيش المصري الحديث – عام ١٨٨٤، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها. كان معظم هؤلاء الجنود مخضرمين في حملات عديدة، يمتلكون خبرة قتالية تفوق غالبًا ضباطهم البريطانيين، لقد كانوا العمود الفقري للجيش وقتها.
الجنود السودانيون و”الجيش المصري القديم“
القول بأن خدمة السودانيين في جيش مصري ليست ظاهرة جديدة في ١٨٨٤ هو تقليل من الحقيقة. فقد جُندوا في الخدمة العسكرية المصرية منذ عهد الفراعنة، تحديدًا من الأسرة السادسة في المملكة القديمة. وعلى الرغم من الجدل حول وضعهم كعبيد أو مرتزقة في حالة هؤلاء الجنود النوبيين، فإننا نرى في مصر القديمة النموذج الأول للعبودية العسكرية السودانية الحديثة، وهي ممارسة نابعة من الأسباب نفسها غالبًا.
عبر القرون، استمر استخدام العبيد السودانيين عسكريًّا في مصر. ففي نهاية القرن التاسع مثلًا، خدم نحو ٤٠ ألفًا من “الزنج” في الجيش النظامي للحاكم المصري أحمد بن طولون، بينما استورد الفاطميون (٩٦٩–١١٧١ م) النوبيين وغيرهم من العبيد السودانيين بأعداد هائلة حتى هيمنوا على الجيش في السنوات الأخيرة من الحكم الفاطمي- لكن مع الوقت، لم يقتصر استخدام مصر للعبيد العسكريين على السودانيين، ولا خدم جميع العبيد السودانيين في مصر فقط. ففي الجيش المملوكي – الذي تألف في الغالب من عبيد من آسيا الوسطى والقوقاز – تضخمت الرتب العسكرية المصرية لأكثر من ٦٠٠ عام (١١٦٩–١٧٩٨ م). كما وُجد عبيد سودانيون في السودان نفسه خلال القرن الثامن عشر، في جيوش ممالك سنار وتقلي ودارفور.
غزو السودان ومشروع التجنيد لمحمد علي باشا
مع ذلك، فإن الصلة الأكثر مباشرة وملاءمة لتشكيل الكتائب السودانية خلال حملات النيل في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر تعود إلى غزو السودان عام ١٨٢٠–١٨٢١م على يد محمد علي – الوالي العثماني المولود في مقدونيا و”مؤسس مصر الحديثة”.
بعد “مذبحة المماليك” عام ١٨١١م، سعى محمد علي لتعزيز سلطته ووضع أساس طموحاته الإمبراطورية عبر إنشاء جيش حديث وفق النظام الجديد (نظام الجديد). كرجل عسكري، شاهد عند وصوله إلى مصر عام ١٨٠١م جيش نابليون عن كثب، وقاتل إلى جانب القوات البريطانية. لا شك أن هذه الجيوش المنضبطة المدربة أثارت إعجابه وأصبحت نموذجًا لجيشه. كما تأثر بإصلاحات الجيش العثماني الحديثة – تنظيم وتكتيكات نظام جديد السلطان سليم. علاوة على ذلك، رأى محمد علي نجاح المدربين العسكريين الفرنسيين في تدريب الأقباط والمغاربة والمماليك وفق الخطوط الأوروبية، سواء في الجيش الفرنسي أو تحت حكم خسرو باشا، سلفه كوالي عثماني.
الإتجاه جنوباً – بدلاً عن المماليك
لم يكن قرار محمد علي بإنشاء جيش من العبيد السودانيين خيارَه الأول، ولا الحل النهائي لمشكلة التجنيد. بُني القرار على عوامل عدة، أبرزها الوضع الضعيف للسودان آنذاك، خاصة مملكة الفونج في سنار. مع ذلك، كانت محاولته الأولى للإصلاح العسكري عام ١٨١٥ مع الجنود الألبان، لا السودانيين. في أغسطس من ذلك العام، حاول فرض انضباط جديد على قواته الألبانية – نواة جيشه بعد حل المماليك – لكن التجربة فشلت فشلًا ذريعًا. عندما انتشرت الشائعات بينهم أن الباشا ينوي “تدريبهم وفق النظام الجديد، محاكيًا الفرنسيين”، بل والأسوأ، “يريدهم ارتداء ملابس ضيقة وتغيير مظهرهم”، تآمر الجنود الألبان لاغتياله. أُفشلت المؤامرة، لكن أعقبها أعمال شغب ونهب في القاهرة. في النهاية، تخلى محمد علي عن الفكرة وأرسل هذه القوات المتمردة لمحاربة الوهابيين في صحراء الجزيرة العربية.
تجنيد الفلاحيين المصريين – أخر الخيارات
أُهمل في البداية تجنيد الفلاحين المصريين (الفلاحين) أيضًا، إذ رأى محمد علي أنهم ذوو قيمة اقتصادية كعمال زراعيين، ولم يرغب في نزعهم من قراهم. ولم يُستخدم هذا الخيار إلا لاحقًا، عندما فشل التجنيد السوداني، بشكلٍ مؤقت. لا يُعرف بالتحديد أين ومتى وُلدت فكرة استخدام العبيد السودانيين، لكن بعد فشل الألبان، لا بد أن فكرة تجنيد جنود أكثر طاعة من خارج مصر – بلا ولاءات إلا له – قد راقت لمحمد علي. كما كانت هناك سوابق لتجنيد الأفارقة السود، سواء في التقليد الإسلامي (كما في حالة الفاطميين) أو مؤخرًا تحت حكم خسرو باشا، سلف محمد علي، الذي شكل فوجًا من العبيد السودانيين كحرس شخصي، دربهم ٢٤ فارًّا من جيش نابليون على التكتيكات الفرنسية.
الهدف الرئيسي لغزو محمد علي للسودان (١٨٢٠–١٨٢١) – أكثر من الذهب والضرائب أو السيطرة على تجارة البحر الأحمر – كان الحصول على عبيد سود للخدمة العسكرية. غادرت قوة مبدئية قوامها ٤ آلاف جندي تحت قيادة ابنه الثالث إسماعيل القاهرة في يوليو ١٨٢٠. تألفت من أتراك ومغاربة وبدو وعرب، بالإضافة إلى ثلاثة علماء، ضابط مدفعي أمريكي، عالم آثار فرنسي، وآخرين. حاربت هذه القوة طريقها جنوبًا على طول النيل، ووصلت وادي النيل الأزرق ومملكة سنار بحلول يونيو ١٨٢١. تبعتهم قوة ثانية بقيادة صهر محمد علي، الدفتردار، متجهة إلى كردفان نحو سلطنة دارفور.
أرض الجنود – موسم واحد بأكثر من عشرين ألف رجل
أدت الغزوات الأولى جنوب سنار إلى أسر ألف فرد تقريبًا، وفي جبال النوبة ضعف ذلك، لكن الرقم الإجمالي كان أقل بكثير من ٢٠ ألفًا الذي طمح إليه محمد علي. لكن في ١٨٢٢–١٨٢٣، زاد عدد العبيد القادمين من جنوب النوبة بعشرة وعشرين ضعفًا، ويُقدر أن ٢٠–٤٠ ألفًا أُسروا خلال هذين العامين. المشكلة التي واجهت الدفتردار – وبالتالي خطط الباشا لجيش سوداني بالكامل – كانت معدل الوفيات بين العبيد أثناء نقلهم شمالًا إلى مصر. فمع أن “موسم” غزوات قد يُنتج ٣–٥ آلاف عبد، كان عدد المجندين الصالحين الذين يصلون مصر بالعشرات فقط…
العبيد الذين وصلوا أسوان واعتُبروا صالحين للخدمة خضعوا للتطعيم وارتدوا سترات قطنية، ثم تسلموا مؤنًا وزيًّا موحدًا وبنادق. نظرًا لأن معظمهم من غير المسلمين، أجبرهم شيوخ مصريون على اعتناق الإسلام بأمر الباشا. أشرف محمد بك لازوغلو، نائب الوالي، على المدرسة العسكرية في أسوان، لكن التدريب نفسه نفذه في البداية فرنسيون وإيطاليون وإسبان ممن خاضوا حروب نابليون، ثم بعثة فرنسية رسمية. وعلى الرغم من بقاء الرتب والأوامر بالتركية، فإن الهيكل الأساسي للرتب ومدونة الانضباط استندت للنموذج الفرنسي…
خطط المُنظِّرون في الأصل لتقسيم الجيش إلى ستة أفواج (كل فوج ٤ آلاف جندي)، يتألف كل فوج (آلاي) من خمس كتائب (أورطة) (٨٠٠ جندي لكل كتيبة). لكن هذه الأرقام ظلت نظرية، وعندما خُفض عدد الكتائب إلى أربع (٨١٦ جنديًا لكل كتيبة)، انخفض إجمالي عدد الجنود لكل فوج إلى ٣٢٦٤. ومع ذلك، ظل تحقيق هذه الأرقام صعبًا، إذ مات كثيرون في المعسكرات أو خلال المسير إلى القاهرة بسبب الحمى والدوسنتاريا والحنين إلى الوطن. كانت الخسائر فادحة لدرجة أن الباشا فكر في ديسمبر ١٨٢٣ باستقدام أطباء من الولايات المتحدة لديهم خبرة في علاج أمراض العبيد الشائعة في الجنوب الأمريكي. النتيجة بالنسبة لمحمد علي كانت أن “جيشه الأسود الحلم” أصبح مجرد حلم، فمن بين ٢٠ ألف عبد جُلبوا بين ١٨٢٠–١٨٢٤، لم يتبق سوى ٣ آلاف عام ١٨٢٤ – رقم أقل من عدد الجنود المُرسلين لأسرهم أساسًا!
التحول إلى تجنيد الفلاحين
حُلَّت مشكلة التناقص في النهاية عبر تجنيد الفلاحين المصريين، بدءًا من ١٨٢٢ في صعيد مصر بشكل مؤقت، ثم على نطاق واسع عام ١٨٢٤. بحلول ذلك العام، تلقى ٣٠ ألف فلاح تدريبًا عسكريًّا، وشكلوا لاحقًا غالبية جيش محمد علي. مع ذلك، اكتسبت الأفواج السودانية التي تشكلت في تلك الفترة سمعة كواحدة من أفضل الوحدات في الجيش المصري. ظلت هذه القوات ذات قيمة عالية – واستُخدمت على نطاق واسع – من قبل محمد علي وخلفائه، الذين واصلوا تجنيد السودانيين بأعداد كبيرة، خاصة في جبال النوبة بكردفان وعلى طول النيل الأزرق، ثم لاحقًا في بحر الغزال.
نظام الزريبة وتجارة العبيد الخاصة
خلال منتصف فترة الحكم التركي، سيطر على تجارة العبيد تجار خاصون – معظمهم أوروبيون (معروفون باسم “الخرطوميين”- الجلابة وهم عرب مسلحون، خاصة بعد تحول العبيد إلى السلعة الرئيسية بدلًا من العاج. نشأ نظام الزريبة، حيث سيطرت معسكرات عبيد وجيوش خاصة – متشابكة ومتنافسة – على تجارة العبيد السودانية ووفرت معظم المجندين للجيش المصري. تألفت هذه الجيوش من جنود عبيد معروفين باسم بازنقر – مجندين محليًّا وعارفين بالمنطقة.
المصادر:
(Slaves of Fortune – Sudanese Soldiers& the River War (1896–1898
RONALD M. LAMOTHE
اترك تعليقاً