بلغني بالأمس رحيل جدتي الأحب إلى روحي، فاطمة المبعوثة إلى العالمين ب”منوكي بت الدقيل” وأنا في أمس الموت إلى حياتها،أحاول لملمة محمد الذي ينفرط عن دموعه في الرسالة الصوتية التي حملها أخي بكل وزرها. ولاأذكر سوى خبطة تلغراف سيظل عزاء هذه المسافة الدامية أضمه/يضمني على حالة الواتساب عندما أخاف..الحنين.. أو أزاول الفقد اليومي …
(تمرر رسالتها الورقية المطوية في الريكورد على طرفي لسانها، تهرب البيت من حنجرة أمي، أسمع صافرات القطار المحمل بالركاب من بابنوسة، يهبطون بلا أياد،وجوههم على صدورهم من فرط الحنين، صوت جدتي “منوكي” يتفرس الحشود في محطة الأبيض، مائة عام ياسارة، يترجل راكب تلو الآخر،أمسك النظرة الأولى من كل باب، جدتي كعادتها تمشي في ظهر أبناءها،الناس وحتى أشجار النيم
تقول:لو رفعت القيامة رأسها تجدني في المقدمة.تلفني إلى ثوب الزراق، أشم رائحتها حتى أسيل فراقاً فراق
تقول: يا محمد،مالك والموت؟! وتشير بأسراب الرهو على أصابعها إلى قلبي، قلبي المحروث بالانتظار، لو يترجل عن صوتك يومًا أي قطار)
أحاول البكاء يامنوكي..فينشق من صدري صيوان العزاء وأرى أبي بوجهه العتيق يحاول ضم أخواته وأخوانه والدموع إلى قلبه، يرفس بين فراغه صرخات لاحولا لها ولا طبطبة،كشاة فجيعة تحاول سد نوافير رائحة أمها،فتهرب فداحتها إلى الله
أحاول البكاء يامنوكي..تنفجر النسوة عن ذكرياتهن معك، يولولن الرحيل كله،وصديقاتك اللاتي قشرن معك مشاوير الطفولة ومشطن حفلات الصبى وزرعن شبالات المحبة، يطقطقن كآخر القش بعد أن تأكله النار..طق هنا وواحدة هناك على مهل موجع.
أحاول البكاء يامنوكي.. غبار أحمر من حفيرة الماء التي سقتنا وبهائمنا عقود-نعم نشرب بكأس واحد-بنات داميات يركضن نحو قرية أمكوكة المبروكة، لأن الجنجويد قرروا ألا تعود فتاة وردت إلى الماء اليوم بكل حياتها..
أحاول البكاء يامنوكي..تتقوس ضلوع أمكوكة المبروكة لتخبرني أنهم ومنذ بدء الحرب،لايبكون إلا بعد ثلاثة أيام لأن البطون الفارغة لاتدمع ضجيجاً
أحاول البكاء يامنوكي..تأتين الصباح كله،أذكرني قطعة عند أبي حول كانون الطين،كأكواب حانية،ملتاعة إلى الجبنة التي تدونين معها جدلاً حميمياً أبدي الشحتفة
أحاول البكاء..يقول الأغبياء أو يظنون هي جدته على أي حال وليست أمه، لايزالون بين قاتل أو قتيل، أحاول البكاء يامنوكي..تسقط فصول المدرسة الأربعة في أمكوكة،يغيب المعلمون الثلاثة فلا يقرع جرس ذلك الصباح، يعود الطلاب بالعصيدة إلى قراهم المجاورة،ومع أنها تسقط كل خريف، أسأل نفسي لماذا في المدينة ثمانية فصول ؟
أحاول البكاء يامنوكي..تحكي عمتي: أنها تطلق بطفلتها البكر، حتى جف الخور الذي أذن للقابلة الوحيدة بالمرور إليها..
أحاول البكاء يامنوكي..وأعرف أن دموعنا في القرية حمراء لاتنقى بالكلور،وهل متنا يوماً لأننا لم نشرب مياه نظيفة ؟
ولأن الموت تحول وهذا الوجود هو “كينونة نحو الموت
تقول ساخرة: “يا محمد، مالك والموت؟”
هل كانت ترى الموت كعدو أم كرفيق؟
حتى في أوج خساراتها، تظل تستحق أن نعيشها
ولما لا نجرب أن تُعاش إلى الأمام،وبطريقة تُفهم إلى الوراء، ،وربما الموت دعوة لنصبح ما نحن عليه وصنارة لالتقاط معنى ما – كانوا يبكونك،في الحياة البسيطة التي نهبتها الحرب.
أحاول البكاء يامنوكي.. أظنني مثل السودانيين يحفونك بمحبة أو أكاذيب مستحسنة لو ضموك بها حياً لما مت..
أحاول البكاء يامنوكي..أذكر ضحكتك المقتضبة المذيلة ب “هي هأ ” والتي أحسبها عند الله جنات عرضها السماوات والأرض، وكما ترحلين منذ الأبد في النوتة البرية،على أي صهيل روح، أحب أن تقرأين الموت على قلبي حافراً حافر..
اترك تعليقاً