أبلمبة، حكاية البلدات الصغيرة.

·

·

, ,

خالد الطاهر

لو عِشت في القرى النائية أو المدن الصغيرة المظلمة، فأنت على موعد مع الشيطان؛ شيطان “أبلمبة” الشهير الذي لا يعرفه أحدٌ معرفةً كاملة. غير أن الجميع يعلمون عنه معلوماتٍ غير مؤكدة ولا مضبوطة. فأبلمبة، بحسب قاطني سنار في التسعينيات عندما كان الظلام يعمها، كان شيطان الكهرباء: لَمْبَةً للطلاب الذين يبحثون عن نور ليستذكروا دروسهم، كما كان نَجْمَةً تهدي السابلة والمسافرين السبيل، وهو أيضًا شبحٌ للخائفين أصحاب القلوب الضعيفة…

العروس التي تاهت عن زوجها

يُحكى فيما يُحكى أنه سرق عروسًا لم تكمل بعد أربعينها، وذلك لأن العريس “المكنوس” (بحسب تعبير حُكَماء ذلك الزمان) – والكُنَاسةُ رديفةٌ للنحس وسوء الطالع وفساد الطوية معًا – المهم أن العريس المكنوس كان لا يغتسل بعد فعل المماحكة وشراب الليل من فم زوجته وروحها الشابة، بينما كان العريس الجديد يغطُّ في نومه، تسلل شيطان العسل هذا ولَمَّ الكَراكيب التي تحتاجها العروس الجديدة في مسيرها، وأخبرها أمرًا جعلها تُخمِدَ نيران الجزع والصراخ، فمضت معه صامتةً غير عابئة بفتاها. هكذا، وطوال سبعة أيام، أقامت معه ولا أحد يعلم ما حدث بينهما. وإن كانت قد نظرت إلى وجهه مباشرةً ولم يُصبها العمى أو الرمد، المهم أنها بعد عودتها سالمةً سليمةً (بحسب الكشف الذي أجرته الداية – طبيبة النساء والتوليد وبعض الأمراض هنا وهناك في ذلك الزمان المظلم) – تأكدت المدينة والقرى المحيطة بأن “الجمل لم يَلِجْ من حيث تَلِجُ الجمال”…

وهكذا سارت القصة بين الكبير والصغير. أبلمبة ليس زانيًا، كما أنه ليس قديسًا بالطبع؛ يمكنه أن يكون ما يشاء! في تلك السنة، تأكد للمريدين أنه قَبَسٌ من حافر الخضر، بقايا دعوةٍ لسلالة عظيمة من الفقهاء والشيوخ. رآه الكثيرون منامًا، وقلةٌ من رأوه يقظةً، ولكن من باح بالسرّ اُستُبيح دمه؛ فذُبحت الذبائح، وضُرِبَ الطَّارُ، ومُدِحَ المدَّاح…

لكن كان للمزارعين قصصهم الأخرى ورواياتهم التي جعلت الأوضاع تحتقن كل موسم حصاد. فقد أقسم الزراع أنه كان يجفف الأرض ويسرق القصب وجزءًا من محاصيلهم، كما رأوه وهو يَرْضَعُ اللبن من ضَرع الماعز! هنا كان المريدون والدراويش يضحكون على خيال الزراع الخصب، ويستعجبون: “كيف لكم أن تظنوا به ظنًّا كهذا؟! أتحسبونه الورلَ؟!”، ويدفعون بتساؤلاتهم عن حقيقة هذه الرؤية: “كيف يبدو؟ ماذا يرتدي؟ والأهم: ما مصدر النور؟ هل هو قلبه أم عيناه أم مسبحته؟!” وينتهي الجدال بطأطأة الرؤوس من قبل الزراع، وضحك الدراويش، ثم يتحولون إلى موضوعٍ آخر…

أما النسوة في أُنسهن، فقد وجدن فيه مادةً جيدةً لحياكة عباءات القصص المخيفة التي تُهدهد الأطفال كي يناموا. والجدات ينسجن منه “بُرْشًا” لقضاء ما تبقى من الليل: “إن حجيتكم ما بجيتكم…” الخ. حيث تبدأ القصة بأبلمبة وتنتهي بأخرى عن الغول، حتى ينام نصف الأطفال ويبقى النصفُ جاحظَ العينين يقتله الفضولُ والخوفُ ربما…

الرجال كانوا ينسجون منه بطولاتٍ وشجاعةً؛ فمنهم مَن قتله، لكن الجسد تبخَّر حالما وصل به حدود المدينة/القرية. ومنهم مَن سلبه أموالًا كانت بحوزته، لكنه وهبها لفقراء أكثر منه فقرًا. فهو في النهاية يملك ضَرعًا أخضرَ، ولا حاجة له بمال الشيطان الأعور…

أما الفتى الأملس الذي كان قد زار مكة قبل عامين، فيرى في ظهور أبلمبة إشارةً لنهاية العالم والقيامة الآكدة. فهو واثقٌ من أن الشيخ ذا العقال قد تلا عليهم حديثَ آخر الزمان بأسانيده الصحيحة، وأن الشيطان ذا العين الواحدة ما هو إلا المسيح الدجال الذي يأتي في آخر الزمان ويخدع الجميع…

وهكذا تمضي المدينةُ والقرى البعيدةُ: نهارًا في العمل، وليلًا في حياكة ثوبٍ جديدٍ لأبلمبة. ولكن أين هو؟ وما هو؟ وكيف هو؟ هذا مما سيحكيه الفكي “أبو دودالة” يومًا في خطبة جمعة ساحقة…


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *